معرض مونيه.. من المفهوم إلى التجربة
فاطمة الشريف
منشور هنا
بدعوة كريمة من إمارة منطقة مكة المكرمة، زارت إدارة وأعضاء جمعية الثقافة والفنون بالطائف بقيادة الأستاذ فيصل الخديدي، وعدد من فنانين وفنانات الطائف المعرض التفاعلي (تخيّل مونيه) والمقام حاليًا بمحافظة جدة ضمن فعاليات صيف 2024، كما نال شرف الدعوة عدد من فنانين وفنانات منطقة مكة المكرمة، إذ يُعد المعرض سردًا تشكيليًّا لفنان رائد من رواد الفن المعاصر (الفنان الفرنسي كلود مونيه)، متيحًا فرصة التعرف على مسيرة حياته الفنية التي جسّدت الحركة الانطباعية، متعمقًا تجربته الفكرية والفنية لدى الزوار من الفنانين والمواطنين والسواح، دعوة كريمة، وتظاهرة فنية جديرة، وتجربة تشكيلية معرفية بتقنية مبتكرة (Image Totale) تستحق الوقوف والتعلم والتكرار، ومسيرة فنية للاقتداء تحمل في طياتها قيم ودروس إنسانية فنية.
لقد اختصر المعرض رحلة العالم، والانتقال من مدينة إلى مدينة؛ تتبعًا للوحات مونيه الخالدة، التي ما أن تقف أمام بعضها حقيقة ترى بهوت ألوانها مع جودة قماشها وتماسك قوامها؛ لتجد نفسك معجبًا بإرث الفنان الفني القيّمي، الذي يعكس إصراره، وحبه لوطنه، واستقامة ونضوج فكره، ونقاء روحه وسجيته، فلم يكن مونيه فنانًا عاديًّا، بل كان مبدعًا، حقق إبداعه بخُلق الإصرار والعزيمة واقتناص الفرص، وعزز ذلك بصداقات إبداعية وفية رقت بالفن وحركته الرائدة، صاحب ذلك أجواء عائلية تتسم بالود والحب على الرغم من قسوة الظروف المادية.
جاء المعرض في أربع محطات تشكيلية رصينة قدّمت فكر وإبداع مونيه الفني على النحو التالي:
المحطة الأولى:
اللوحات الضوئية المعلقة عبارة عن صفحات مشرقة في مسيرة الفنان.
المحطة الثانية:
جدارية لوحات مونيه الفوتوغرافية التي رصدت أهم سلسلة لوحاته التشكيلية.
المحطة الثالثة:
الغرفة الغامرة، والتي تتكون من 40 جهاز عرض عالي الدقة تعرض 200 لوحة فنية عملاقة تشعرك كأنك تعيش داخل لوحاته.
المحطة الرابعة:
تجسيد حديقة مونيه والجسر الياباني بحديقته في رمزية لتأثره وحبه للفن الياباني، مع ورش رسم وزراعة خارج صالة المعرض.
الساحر في المعرض ليس اللوحات والعرض التفاعلي فحسب، بل القصص والعبارات والتجارب خلف تلك اللوحات، التي ظهر فيها مونيه فنانًا استثنائيًّا عندما قرر كسر قيود المدرسة التقليدية للفن، تجربة مونيه العالمية ببساطة تعكس الانغماس بالضوء والانطباع، فمن الاسكتش والرسوم الكاريكاتيرية صغيرًا، إلى لوحة طلاء الهواء والمناظر الخلابة، إلى جداريات رصدت جمال حديقته في أربعين سنة من الجد والجهد الدؤوب، سعى مونيه إلى التقاط ما هو عابر: الضوء، والشعور، واللحظة الآنية، والخيال الذي يجعلك تسبح في فضاء ما بعد حدود اللوحة، مؤكدًا أن التقاط الضوء والظل والحركة كما تراه العين في لحظة محددة هو ما يصنعه الانطباعي من مساحة لونية تضفي الغموض والسحر، تاركًا خلفه 3000 لوحة في مضامين الطبيعة الفرنسية، والبيئة المحلية، وجولاته لبعض مدن أوروبا مثل لندن والبندقية، وأخيرًا العائلة ومنزله.
تجربة مونيه كما قال هو عن نفسه، وما قال أصحابه عنه، تعكس رقي العلاقات الإبداعية التي تعزز قيمًا إنسانية بالكاد تراه… كتب له صديقه رجل الدولة جورج كليمنصو قائلًا:
“سوف تموت وأنت ترسم، ولا شك لدي في أنني عندما أصل إلى الجنة، سأجدك تحمل فرشاة رسم في يدك”.
وقال عن شغفه بحديقته المائية مصدر إلهامه، وتجويده لها:
“لقد استغرقت بعض الوقت لأفهم زنابق الماء الخاصة بي، لقد قمت بزراعتها دون أن أفكر في رسمها، المناظر الطبيعية لا تصبح جزءًا من حياتك في يوم واحد، وبعد ذلك فجأة، اكتشفت مدى جمال بركتي. أخذت لوحتي، ومنذ ذلك الحين لم يكن أي موضوع آخر يأسر اهتمامك”.
تجربة مونيه ليست أسيرة الواقع، بل هي الانزلاق التدريجي نحو التمثيل التجريدي الذي أنتج سلاسل من اللوحات التي ضحّى مونيه بالتفاصيل الدقيقة مركزًا على الشعور، والتقاط اللحظة العابرة؛ لإبراز الهواء والضوء والانطباع، ومع كل سلسلة من الأعمال الفنية تبرز قيمة فنية لدى مونيه: لوحات زنابق الماء وقيمة التجريد الذي يفقد الشكل أهميته لصالح الملمس اللوني للوحة، وأكوام القش وقيمة التركيب وسط اللوحة محاطة بمحيطها، وفي أوقات متنوعة من السنة، وواجهات كاتدرائية روان وقيمة امتلاء اللوحة، وله مع سلسلة أشجار الحور، وتأجيل بيع قطعة الأرض حتى يتمكن من رسم مشهد الأشجار كاملة، وإقامته في ورشة محطة سان لازار راسمًا الدخان الكثيف الذي يحجب الضوء لطلاء الهواء في سلسلة لوحات محطة سان لازار، إنه ببساطة فنان مخلص لفنه ووقته وما ترصده عينه، فلم يبحث عن مشاهد استثنائية، بل رسم ما رآه بكل حرفية، سعيًا وراء التعبير عن المشاعر المثارة بالمناظر الطبيعية أو الضوء والظلال، لقد قدّم للعالم تقنية رسم الضوء، التي تعتمد على رسم التأثير اللوني للضوء دون التركيز علي الألوان المادية للأشياء، حيث قام بمراكمة الألوان المختلفة بعضها فوق بعض حيث تمتزج الألوان ضوئيًّا لتعطي انطباعًا باللون المطلوب، لقد كان الضوء لمونيه رمزا لمرور الوقت، حيث لاحظ كيف يتغير الضوء مع تغير الفصول والساعات، وأن التقاط الاختلافات الدقيقة للضوء هو وسيلة لالتقاط اللحظة الزمنية بكل تفاصيلها، لم يكن الرسم ميكانيكا مفتعلة لديه بل هو التقاط جوهر الوقت بكل ما يحمله من فرح وألم، والعودة إلى المشهد نفسه يوميًّا، راصدًا اللحظة المثالية للرسم والتي يضيء فيها ضوء الشمس بلونه البرتقالي الساطع مدة سبع دقائق فقط، وكان يقول:
“الشكل هو شيء ثانوي، ما أريد تصويره هو ما يوجد بيني وبين الشكل”.
معرض “تخيّل مونية” موظفًا تقنية الإسقاط السردي، مستلهمًا من متحف أورانجيري، ابتكر سينوغرافيا فريدة لفهم تقنية الانطباعية بشكل أعمق، وحرّك الحواس نحو عالم من الصور الخلابة مع موسيقى تصويرية تنقل الزائر لتجربة فريدة للتفاعل مع الفن برؤية خيالية مائزة، وذكرى معرفية لا تنسى.
رابط الفيديو، تصميم فاطمة الشريف
https://shorturl.at/RDrp9
رابط الفيديو، تصميم جمعية الثقافة والفنون بالطائف
https://shorturl.at/dsZUM
ورش فنية على هامش المعرض
تعليقات
إرسال تعليق