فنانو وفنانات المدينة المنورة.. أربعة عقود من الإبداع والتجديد

551
0بقلم فاطمة الشريف
جماعة فنانو المدينة المنورة ومعارضهم المستمرة؛ قصة إبداع وتجديد عمرها أربعين عامًا وقد تزيد، تأسست عام 1401هـ على يد كل من الأستاذ محمد سيام رحمه الله، والأستاذ منصور كردي رحمه الله، والدكتور فؤاد مغربل، وتضم في عضويتها رعيل فريد من فناني وفنانات المدينة المنورة، وقد وصف أعمال الجماعة الدكتور أمجد عبد السلام عيد في مقال بعنوان (فنانو المدينة المنورة التشـكيليون يتحسسون الهوية) كأنها “منظومة كـلية تجمع كل خواطره وأحاسيسه التي تنمو من رحـم الهوية وتجسدها بشكل يعطي انعكاسًا مباشرًا للتأكيد عليها، حيث حرص جميع الفنانين على التمسك بالهوية والتراث والتأكيد على الموروث الإسـلامي اسـتخدام الأسـلوب الذي يعكس مكونًا ثقافيًا وموروثًا حضاريًا خاصًا صاغه جميع الفنانين بأسلوب وطريقة تميز كل منهم على حدة…” وصنّف أعضاءها إلى “الرعيل الأول مثل الراحل محمد سيام، وفؤاد مغربل، ود. صالح خطاب، ونبيل نجدى، كذا فنانو الرعيل الثـاني مثل مريم مشيخ، وخالد برادة، وسـامى البـار، والخـزاف عمار سعيد، ومحمد مظهر، وأحمد البار، وهلا عسيلان، وعادل حسـينون، ومنى بلال، وأيمن حافظ، وفاطمة رجب، ومؤيد الحكيم، وأبرار سهارا، وسامية خاشقجي“. ويمكننا أن نستكمل قائمة الفنانين والفنانات من خلال مشاركتهم المعرض الجماعي في جولته الثلاثين، الذي أقيم في الفترة من 19 إلى 28 جمادي الأول 1446 بمركز أدهم للفنون بمدينة جدة، وهم سلوى حجر، وحسين تمراز، وعالية الحربي، وهنادي سنان، ود. ولاء الحارثي، ورشا طالب، وكلنا فخر بهذه القائمة من الفنانين والفنانات قادوا وما زالوا مسيرة الفن في طيبة النور ومدينة الهدى، وكلنا اعتزاز أن تضئ صفحات فرقد الإبداعية ألوان أعمالهم وتشكيلات فكرهم، وقد كتب الأستاذ عبد القادر مكي عن حراك الجماعة في مقاله بعنوان عن افتتاح معرض “الجولة الثلاثون” لجماعة فناني المدينة المنورة، والذي افتتح في مركز المدينة للفنون المعاصرة في حديقة الملك فهد المركزية بالمدينة المنورة؛ إنه حراك تشكيلي وتجوال داخل وخارج المملكة يساهم في طرح آفاق جديدة للفن التشكيلي السعودي، جامعًا بين العراقة والحداثة.
المعرض وفعالياته المقامة في مدينة جدة من محاضرات وورش عمل يعد من أبرز الفعاليات التشكيلية الثقافية في المملكة، بل هو بالفعل نشاط تشكيلي ثقافي فريد من نوعه؛ متنوع الفنون ما بين رسم ونحت وخزف ونسيج، متعدد الاتجاهات التشكيلية من تعبيرية ملهمة إلى تأثيرية مبدعة ووصولًا إلى تجريدية حالمة، زاخرًا بالإشارات والرموز الإسلامية، وتمثيلات التراث العربي المدني النوراني، حقيقة يعجز اليراع أن يصف الشعور الذي خالط الإحساس عند دخول المعرض الذي بدا كأنه بلورة من الألوان الثرية تناغمت في أشكال وصور ورموز تأخذ المتجول إلى عالم مفعم بالنور والألق والجمال، اللوحات تراصت كأنها سردية ضوئية تعكس التطور التشكيلي في تكوينات كل لوحة، وصولًا إلى روح الإبداع وعبقرية اللون والفكرة، إنه نشاط تشكيلي رائد وقائد في مسيرة الفن التشكيلي السعودي بقيادة الدكتور مغربل، والذي أشادت بجهوده الفنانة التشكيلية سلوى حجر، واستمراره في تجوال معارض الجماعة قائلة “يمثل (مغربل) نموذجًا متميزًا ومؤثرًا في دعم الفنون البصرية”. بالفعل قيادة شغوفة ومثابرة من الدكتور فؤاد مغربل، ومعرض جسّد رسالة فنية تعكس التنوع الثقافي والإبداعي لدى كل فنان مترجمًا رؤية حديثة تتناغم مع جماليات الماضي والحاضر مستوحاة من الطبيعة المرئية، والعمارة التراثية، والرموز الدينية ذات دلالات دينية تسافر بالأرواح قبل الأبصار في سرديات بين الحاضر والماضي، والأصالة والحداثة؛ فشكرًا قد صنعتم حدثًا تشكيليًا مبهجًا وبصمة ثقافية منعشة.
تناغمت تلك الرسالة والرؤية وتمازجت فأنتجت لوحات من الضياء والألوان المشعة بين ألق البنفسج وسكينة الأخضر والديمومة الأزرق أضفت إحساسًا بالحركة والاحتفال، مع تقنيات فريدة للظل والضوء، شكلت أعمال ذات طابع حداثي وتجريدي، امتزج فيها التراث مع التعبير الفني الحديث في لوحات د. فؤاد مغربل، حاملة أرواحنا قبل أبصارنا إلى شموخ الخط العربي والرموز التراثية عبر منحوتات ورسومات نبيل النجدي، التي وسم نحته الدكتور عيد فأوجز قائلًا إنه “لجأ لأسلوب وخامة شديدة الخصوصية؛ وهي الحديد المشغول وخامة السلستيل والصاج، مستخدما تقنيات التفريغ والتشكيل بأسلوب مبسط. يستخدم الخطـوط والكتابات العربيـة لعمل تكوينات مجسمة من الحروف بأسلوب الحذف والإضافة، ليعكـس بـذلك فكـرًا خـاصًا للخامة. يجمـع كل الصياغات ويجسـد معنى الترابـط بين جزيئيـات العـمل”. ومسافرة بنا تلك الرسالة والرؤية مع جمال الطير في لوحات د. ولاء الحارثي التي قدّمت لنا توليفية بين الواقعية في رسم الطيور والتجريدية في الخلفيات الزاخرة بمعاني الحياة المبهجة؛ ما عكست رؤية فنية مبتكرة، ومدغدغة أناملنا مع دقة النسج ومزجه في التكوين في لوحات د. هلا عسيلان ولّدت تمثيلات فنية مهنية بحرفية عالية في إدخال الخيط مع اللون مفتعلة دعاية للحرفة والإبداع عبر منسوجاتها على سرج حصان معروض وسط المعرض، أما عادل حسنون أخذنا في رحلة تعبيرية مذهلة مع الخيل والنخل حيث الأصالة والثبات في تكوينات تمتزج فيها الطبيعة مع جمال العمارة مكونة ثورة في التصميم، وتوقفنا في ذهول وتسبيح مع المرأة وتجليات الأنوثة الشرقية في مجموعة الفنان سامي البار التي تعكس رؤية فنية غنية بالألوان والتراث الثقافي، حيث تبرز العناصر الأنثوية برمزية ذات إطار حداثي وتجريدي خلّاق، تفاصيل الزهر والثمر والطير، وتداخلات خطية، وأشكال تجريدية وألوان مشرقة، ذات خلفيات تضم عناصر زخرفية، وتمثيلات للخط العربي والتراث المحلي بأسلوب ديناميكي مع تدرجات لونية حيوية؛ فتظهر المرأة تارة في حالة اجتماعية معززة التراث السعودي عبر التصميمات المحيطة، وتارة في أوضاع يومية يكتنزها الشعور بالتأمل والراحة اليومية مضيفة عمقًا للقصص التي ترويها اللوحات، تبدو لوحات البار حقيقة احتفاء بالمرأة وسمة الهدوء والراحة، والثقافة النسوية السائدة في عالم المرأة، ومزج مثير بين الرمزية والتعبيرية المأطرة بتجريد فاق الجمال.
لقد قدّم إبداعًا فنيًا معاصرًا لا تمل تأمل اللوحة وتحسس تكويناتها الزاهية المبتهجة، إنها مجموعة سردية خاصة بعوالم المرأة رسمها فنان يتقن فنه وإحساسه الراقي، حقيقة كل الأعمال شكلت مجموعات فنية تحكي قصص من الإبداع والأصالة والأثر والتأثير، مجموعات تشكيلية، وأخرى حرفيه تعكس روح الجماعة من حيث الإصرار على التفرد والتميز، فكل مجموعة تقول:
ها نحن ذا في معرض مفعم بالمعاني والقيم والجمال.
تراصت لوحات المعرض مع ضيوف الشرف رحمهم الله: الفنان محمد سيام والفنان منصور كردي.
فعاليات المعرض المصاحبة تعد ملتقى للفن والتراث والثقافة التشكيلية، لم يكن المعرض مجرد عرض للوحات الفنية، بل تميز بتنظيم جلسات حوارية وأنشطة فنية، أبرزها:
ورشة الخزف مع الخزّاف عمار سعيد الذي تميزت أعماله بالخروج عن الأشكال التقليدية المعتادة في فن الخزف، مقدّمًا أعمالًا خزفية معلّقة تتخذ هيئة اللوحة الزخرفية، وتقديم صياغات فنية مبتكرة، تعكس تفاصيل ورؤى مبسطة مستوحاة من بيئة المدينة.
ورشة الرسم الحر بقيادة د. فؤاد مغربل، ومجموعة من الفنانين والفنانات استعرضت مهارات الرسم المباشر، وفي مراحل عمل اللوحة لدى مغربل هنالك تجليات لونية تبدأ بالتخطيط للتكوين ثم لخطوط العشوائية ثم الكتل اللونية المتناثرة ثم توزيع الظل والنور؛ فتتجلى اللوحة في أكمل روحانيتها ونورها؛ لتعكس روحانية طيبة الطيبة وأنوارها المحمدية.
تعددت اللقاءات الفنية، ومن أبرزها حوار فني بعنوان من الذاكرة للفنان الدكتور عصام عسيري، الذي أشاد بجهود الجماعة عبر حواره عن قصة الفن في المدينة المنورة، ومعارض جماعة فناني المدينة، التي يقدر عمرها ٤٦ بستة وأربعين سنة، ورصيدها ثلاثون معرضًا جاب مدن السعودية وعواصم عربية وعالمية، ومن ثم الحديث عن تأسيس الجماعة التشكيلية، واللقاء بالدكتور صالح خطاب وعمله في الشؤون الثقافية برعاية الشباب، ثم وزارة الإعلام، ثم الفنون البصرية بوزارة الثقافة الآن، حيث قال عن الخطاب “كان يخطط ويشرف على تنفيذ ٤٠٠ معرض تشكيلي لكل مناطق ومحافظات المملكة، ما تعجز عن تنفيذه أكبر شركات معارض ومؤتمرات اليوم”. وقد حضر الجلسة وشارك في الحوار نخبة من فناني جدة والمثقفين والإعلاميين، وعرضت الجماعة فوق خمسة وعشرين صورة لفنون المدينة في عيون الرسامين منذ ٥٠٠ عام من منمنمات ومخطوطات وخرائط وصور فوتوغرافية عتيقة منذ أواخر القرن التاسع عشر.
ومن الحوارات الفنية مع الفنان هشام العايش بعنوان بين الواقع والمأمول، حوار عن النسيج كمؤثر في الفن السعودي المعاصر مع الدكتورة هلا العسيلان، وحوار عن الفخار بين الحرفة والفن للدكتورة ناهد تركستاني، وحوارات مشاركة مع عدد من الفنانين والفنانات.
ختامًا يؤكد الدكتور فؤاد مغربل، بأن الجماعة ملتزمة بمواصلة السير قدمًا لتعزيز مكانة الفن التشكيلي السعودي في الساحة المحلية والعالمية، واعتبار أن هذه الجولات ترجمة لرؤية خاصة في ترسيخ قيم الجمال والإبداع، ورسالة إلى أهمية الفنون ودعم الفنانين والفنانات، مخاطبًا الجهات المختصة بضرورة الدعم المستمر للفن والفنانين بأقصى درجات الاهتمام والدعم الحقيقي، وأهمية تطوير منافذ البيع والاقتناء لفنونهم، ويؤكد على أهمية تشجيع ممارسة الفنون، مشيدًا بما تشهده البلاد من حراك تشكيلي بطرح متنوع وغزير؛ أنه ظاهرة جميلة بغض النظر عما يقدم، وأن البقاء التشكيلي هو للأفضل والأجود، ولمن يمتلك فكرًا ورسالة لفنه ولمجتمعه.
جميع اللوحات بعدسة فاطمة الشريف
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق