الأحد، 4 مايو 2025

فنانو وفنانات المدينة المنورة.. أربعة عقود من الإبداع والتجديد

 

فنانو وفنانات المدينة المنورة.. أربعة عقود من الإبداع والتجديد

منذ 4 أشهر

551

0

01 يناير 2025 07:10: م


نشر هنا

 بقلم فاطمة الشريف

جماعة فنانو المدينة المنورة ومعارضهم المستمرة؛ قصة إبداع وتجديد عمرها أربعين عامًا وقد تزيد، تأسست عام 1401هـ على يد كل من الأستاذ محمد سيام رحمه الله، والأستاذ منصور كردي رحمه الله، والدكتور فؤاد مغربل، وتضم في عضويتها رعيل فريد من فناني وفنانات المدينة المنورة، وقد وصف أعمال الجماعة الدكتور أمجد عبد السلام عيد في مقال بعنوان (فنانو المدينة المنورة التشـكيليون يتحسسون الهوية) كأنها “منظومة كـلية تجمع كل خواطره وأحاسيسه التي تنمو من رحـم الهوية وتجسدها بشكل يعطي انعكاسًا مباشرًا للتأكيد عليها، حيث حرص جميع الفنانين على التمسك بالهوية والتراث والتأكيد على الموروث الإسـلامي اسـتخدام الأسـلوب الذي يعكس مكونًا ثقافيًا وموروثًا حضاريًا خاصًا صاغه جميع الفنانين بأسلوب وطريقة تميز كل منهم على حدة…” وصنّف أعضاءها إلى “الرعيل الأول مثل الراحل محمد سيام، وفؤاد مغربل، ود. صالح خطاب، ونبيل نجدى، كذا فنانو الرعيل الثـاني مثل مريم مشيخ، وخالد برادة، وسـامى البـار، والخـزاف عمار سعيد، ومحمد مظهر، وأحمد البار، وهلا عسيلان، وعادل حسـينون، ومنى بلال، وأيمن حافظ، وفاطمة رجب، ومؤيد الحكيم، وأبرار سهارا، وسامية خاشقجي“. ويمكننا أن نستكمل قائمة الفنانين والفنانات من خلال مشاركتهم المعرض الجماعي في جولته الثلاثين، الذي أقيم في الفترة من  19 إلى 28 جمادي الأول 1446 بمركز أدهم للفنون بمدينة جدة، وهم سلوى حجر، وحسين تمراز، وعالية الحربي، وهنادي سنان، ود. ولاء الحارثي، ورشا طالب، وكلنا فخر بهذه القائمة من الفنانين والفنانات قادوا وما زالوا مسيرة الفن في طيبة النور ومدينة الهدى، وكلنا اعتزاز أن تضئ صفحات فرقد الإبداعية ألوان أعمالهم وتشكيلات فكرهم، وقد كتب الأستاذ عبد القادر مكي عن حراك الجماعة في مقاله بعنوان عن افتتاح معرض “الجولة الثلاثون” لجماعة فناني المدينة المنورة، والذي افتتح في مركز المدينة للفنون المعاصرة في حديقة الملك فهد المركزية بالمدينة المنورة؛ إنه حراك تشكيلي وتجوال داخل وخارج المملكة يساهم في طرح آفاق جديدة للفن التشكيلي السعودي، جامعًا بين العراقة والحداثة. 

المعرض وفعالياته المقامة في مدينة جدة من محاضرات وورش عمل يعد من أبرز الفعاليات التشكيلية الثقافية في المملكة، بل هو بالفعل نشاط تشكيلي ثقافي فريد من نوعه؛ متنوع الفنون ما بين رسم ونحت وخزف ونسيج، متعدد الاتجاهات التشكيلية من تعبيرية ملهمة إلى تأثيرية مبدعة ووصولًا إلى تجريدية حالمة، زاخرًا بالإشارات والرموز الإسلامية، وتمثيلات التراث العربي المدني النوراني، حقيقة يعجز اليراع أن يصف الشعور الذي خالط الإحساس عند دخول المعرض الذي بدا كأنه بلورة من الألوان الثرية تناغمت في أشكال وصور ورموز تأخذ المتجول إلى عالم مفعم بالنور والألق والجمال، اللوحات تراصت كأنها سردية ضوئية تعكس التطور التشكيلي في تكوينات كل لوحة، وصولًا إلى روح الإبداع وعبقرية اللون والفكرة، إنه نشاط تشكيلي رائد وقائد في مسيرة الفن التشكيلي السعودي بقيادة الدكتور مغربل، والذي أشادت بجهوده الفنانة التشكيلية سلوى حجر، واستمراره في تجوال معارض الجماعة قائلة “يمثل (مغربل) نموذجًا متميزًا ومؤثرًا في دعم الفنون البصرية”. بالفعل قيادة شغوفة ومثابرة من الدكتور فؤاد مغربل، ومعرض جسّد رسالة فنية تعكس التنوع الثقافي والإبداعي لدى كل فنان مترجمًا رؤية حديثة تتناغم مع جماليات الماضي والحاضر مستوحاة من الطبيعة المرئية، والعمارة التراثية، والرموز الدينية ذات دلالات دينية تسافر بالأرواح قبل الأبصار في سرديات بين الحاضر والماضي، والأصالة والحداثة؛ فشكرًا قد صنعتم حدثًا تشكيليًا مبهجًا وبصمة ثقافية منعشة. 

تناغمت تلك الرسالة والرؤية وتمازجت فأنتجت لوحات من الضياء والألوان المشعة بين ألق البنفسج وسكينة الأخضر والديمومة الأزرق أضفت إحساسًا بالحركة والاحتفال، مع تقنيات فريدة للظل والضوء، شكلت أعمال ذات طابع حداثي وتجريدي، امتزج فيها التراث مع التعبير الفني الحديث في لوحات د. فؤاد مغربل، حاملة أرواحنا قبل أبصارنا إلى شموخ الخط العربي والرموز التراثية عبر منحوتات ورسومات نبيل النجدي، التي وسم نحته الدكتور عيد فأوجز قائلًا إنه “لجأ لأسلوب وخامة شديدة الخصوصية؛ وهي الحديد المشغول وخامة السلستيل والصاج، مستخدما تقنيات التفريغ والتشكيل بأسلوب مبسط. يستخدم الخطـوط والكتابات العربيـة لعمل تكوينات مجسمة من الحروف بأسلوب الحذف والإضافة، ليعكـس بـذلك فكـرًا خـاصًا للخامة. يجمـع كل الصياغات ويجسـد معنى الترابـط بين جزيئيـات العـمل”. ومسافرة بنا  تلك الرسالة والرؤية مع جمال الطير في لوحات د. ولاء الحارثي التي قدّمت لنا توليفية بين الواقعية في رسم الطيور والتجريدية في الخلفيات الزاخرة بمعاني الحياة المبهجة؛ ما عكست رؤية فنية مبتكرة، ومدغدغة أناملنا مع دقة النسج ومزجه في التكوين في لوحات د. هلا عسيلان ولّدت تمثيلات فنية مهنية بحرفية عالية في إدخال الخيط مع اللون مفتعلة دعاية للحرفة والإبداع عبر منسوجاتها على سرج حصان معروض وسط المعرض، أما عادل حسنون أخذنا في رحلة تعبيرية مذهلة مع الخيل والنخل حيث الأصالة والثبات في تكوينات تمتزج فيها الطبيعة مع جمال العمارة مكونة ثورة في التصميم، وتوقفنا في ذهول وتسبيح مع المرأة وتجليات الأنوثة الشرقية في مجموعة الفنان سامي البار التي تعكس رؤية فنية غنية بالألوان والتراث الثقافي، حيث تبرز العناصر الأنثوية برمزية ذات إطار حداثي وتجريدي خلّاق، تفاصيل الزهر والثمر والطير، وتداخلات خطية، وأشكال تجريدية وألوان مشرقة، ذات خلفيات تضم عناصر زخرفية، وتمثيلات للخط العربي والتراث المحلي بأسلوب ديناميكي مع تدرجات لونية حيوية؛ فتظهر المرأة تارة في حالة اجتماعية معززة التراث السعودي عبر التصميمات المحيطة، وتارة في أوضاع يومية يكتنزها الشعور بالتأمل والراحة اليومية مضيفة عمقًا للقصص التي ترويها اللوحات، تبدو لوحات البار حقيقة احتفاء بالمرأة وسمة الهدوء والراحة، والثقافة النسوية السائدة في عالم المرأة، ومزج مثير بين الرمزية والتعبيرية المأطرة بتجريد فاق الجمال.

لقد قدّم إبداعًا فنيًا معاصرًا لا تمل تأمل اللوحة وتحسس تكويناتها الزاهية المبتهجة، إنها مجموعة سردية خاصة بعوالم المرأة رسمها فنان يتقن فنه وإحساسه الراقي، حقيقة كل الأعمال شكلت مجموعات فنية تحكي قصص من الإبداع والأصالة والأثر والتأثير، مجموعات تشكيلية، وأخرى حرفيه تعكس روح الجماعة من حيث الإصرار على التفرد والتميز، فكل مجموعة تقول:

ها نحن ذا في معرض مفعم بالمعاني والقيم والجمال. 

تراصت لوحات المعرض مع ضيوف الشرف رحمهم الله: الفنان محمد سيام والفنان منصور كردي. 

فعاليات المعرض المصاحبة تعد ملتقى للفن والتراث والثقافة التشكيلية، لم يكن المعرض مجرد عرض للوحات الفنية، بل تميز بتنظيم جلسات حوارية وأنشطة فنية، أبرزها:

ورشة الخزف مع الخزّاف عمار سعيد الذي تميزت أعماله بالخروج عن الأشكال التقليدية المعتادة في فن الخزف، مقدّمًا أعمالًا خزفية معلّقة تتخذ هيئة اللوحة الزخرفية، وتقديم صياغات فنية مبتكرة، تعكس تفاصيل ورؤى مبسطة مستوحاة من بيئة المدينة.

ورشة الرسم الحر بقيادة د. فؤاد مغربل، ومجموعة من الفنانين والفنانات استعرضت مهارات الرسم المباشر، وفي مراحل عمل اللوحة لدى مغربل هنالك تجليات لونية تبدأ بالتخطيط للتكوين ثم لخطوط العشوائية ثم الكتل اللونية المتناثرة ثم توزيع الظل والنور؛ فتتجلى اللوحة في أكمل روحانيتها ونورها؛ لتعكس روحانية طيبة الطيبة وأنوارها المحمدية. 

تعددت اللقاءات الفنية، ومن أبرزها حوار فني بعنوان من الذاكرة للفنان الدكتور عصام عسيري، الذي أشاد بجهود الجماعة عبر حواره عن قصة الفن في المدينة المنورة، ومعارض جماعة فناني المدينة، التي يقدر عمرها ٤٦ بستة وأربعين سنة، ورصيدها ثلاثون معرضًا جاب مدن السعودية وعواصم عربية وعالمية، ومن ثم الحديث عن تأسيس الجماعة التشكيلية، واللقاء بالدكتور صالح خطاب وعمله في الشؤون الثقافية برعاية الشباب، ثم وزارة الإعلام، ثم الفنون البصرية بوزارة الثقافة الآن، حيث قال عن الخطاب “كان يخطط ويشرف على تنفيذ ٤٠٠ معرض تشكيلي لكل مناطق ومحافظات المملكة، ما تعجز عن تنفيذه أكبر شركات معارض ومؤتمرات اليوم”. وقد حضر الجلسة وشارك في الحوار نخبة من فناني جدة والمثقفين والإعلاميين، وعرضت الجماعة فوق خمسة وعشرين صورة لفنون المدينة في عيون الرسامين منذ ٥٠٠ عام من منمنمات ومخطوطات وخرائط وصور فوتوغرافية عتيقة منذ أواخر القرن التاسع عشر.

ومن الحوارات الفنية مع الفنان هشام العايش بعنوان بين الواقع والمأمول، حوار عن النسيج كمؤثر في الفن السعودي المعاصر مع الدكتورة هلا العسيلان، وحوار عن الفخار بين الحرفة والفن للدكتورة ناهد تركستاني، وحوارات مشاركة مع عدد من الفنانين والفنانات.

ختامًا يؤكد الدكتور فؤاد مغربل، بأن الجماعة ملتزمة بمواصلة السير قدمًا لتعزيز مكانة الفن التشكيلي السعودي في الساحة المحلية والعالمية، واعتبار أن هذه الجولات ترجمة لرؤية خاصة في ترسيخ قيم الجمال والإبداع، ورسالة إلى أهمية الفنون ودعم الفنانين والفنانات، مخاطبًا الجهات المختصة بضرورة الدعم المستمر للفن والفنانين بأقصى درجات الاهتمام والدعم الحقيقي، وأهمية تطوير منافذ البيع والاقتناء لفنونهم، ويؤكد على أهمية تشجيع ممارسة الفنون، مشيدًا بما تشهده البلاد من حراك تشكيلي بطرح متنوع وغزير؛ أنه ظاهرة جميلة بغض النظر عما يقدم، وأن البقاء التشكيلي هو للأفضل والأجود، ولمن يمتلك فكرًا ورسالة لفنه ولمجتمعه.

جميع اللوحات بعدسة فاطمة الشريف 

أثر القصص المصورة.. في أعمال الفنانة هونغ ليو

 


أثر القصص المصورة.. في أعمال الفنانة هونغ ليو




منذ 3 أشهر

356

2

    


01 نشر في فبراير 2025 06:36: م

 بقلم فاطمة الشريف 

“I hope to wash my subjects of their  ‘otherness’ and reveal them as dignified, even mythic figures on the grander scale of history painting.” Hung Liu

تتعدد أنواع وغايات المعارض الفنية، فهي ليست مساحة لإظهار المواهب والإبداعات، أو للترويج والاقتناء، وتطوير الذوق العام، وفرصة لعقد الحوارات والفعاليات المصاحبة، ورصد التاريخ وتوثيق عصوره وحركاته، وتعزيز الهوية بجميع مستوياتها؛ هي كل ذلك مع التأكيد على أهمية التكاتف مع الفنان والقييم الفني والناقد والمتذوق والجمهور، حتى يتجلى معرض في مدارات تعاونية إبداعية؛ لتحقيق رسالة وهدف المعرض الإنسانية التي تعزز السلوك والشعور وتحدث تغييرًا حقيقيًا في نفوس زوار المعرض، فهذه هي الغاية الكبرى من المعارض ذات الأثر. 

 قد خالطني شعور المرح والشغف و البهجة وأنا أتجول في معرض الفنانة الأمريكية الصينية هونغ ليو (Hung Liu ) عند رؤية لوحات القماش الكبيرة بألوان الزيت والأكريليك وقطرات الكتان، ورسومات توضيحية على الورق بالطباعة والتلوين، ونماذج من قصص مصورة مكتوبة باللغة الصينية (Xiaorenshu) والسلسلة القصصية المصورة (lianhuanhua)، وكتب توثق سيرة الفنانة الراحلة في2021؛ لتأخذني الذاكرة إلى القصص المصورة التي نشأنا على قراءتها في مجلات الطفولة العربية (سمير،  وماجد، وعلاء الدين، والسندباد البحري، وتان تان)، ومثل تلك التي كنا نشتريها لأولادنا (سلسلة المكتبة الخضراء)، مع فارق كبير في الحجم، ونوع الرسومات، والقيمة المضافة للتعليم، وما تم إصداره من قصص مصورة لفني الكومكس والمانجا بهوية سعودية. يجعلنا نرسم علامة استفهام كبيرة لتساؤلات كثيرة… 

هونغ ليو (Hung Liu) من مواليد الفترة الذهبية لتأسيس جمهورية الصين الشعبية في الأربعينات من القرن العشرين، على يد الزعيم الصيني ماو تسي تونج (mao zedong)، ونشأت في الفترة التي تسمى بالثورة الثقافية (The Cultural Revolution 1966-76)، التي وجدت في إزالة الغيرية (otherness) موضوعًا لإحدى مجموعاتها الفنية؛ للتعريف بالهوية الفردية (بنت بهمة ومرح ولد)، وتعزيز الهوية الجماعية والثقافية (الأطفال والقصص المصورة، وطبقة العمال والعمل في حقول الأرز)، فكان خيارها هو إعادة كتابة التاريخ بلغة بصرية تمازجت معه ذكريات الطفولة، وشواهد حقائق التاريخ الصيني، ونصوص مكتوبة، فقدم لنا المعرض الاستعادي سلسلة من أعمالها برعاية من صالة الفنون:

Maria & Alberto de la Cruz Art Gallery 

التابعة لجامعة جورج تاون (Georgetown University)، ومجموعة من طلبة الدراسات العليا، لإخراج هذا المعرض الذي تجلت معه رسالة الفنانة في تجسيد النساء كشخصيات كريمة ومناضلة تجسد قصص بروح أسطورية واقعية تمتزج برمزية رشيقة وتعبيرية عميقة، معززًا لهوية ثقافية تعكس طفولة مرحة غنية بحب الأسرة والاحتواء، وشغف القراءة لدى أطفال الخمسينيات، ودور مكتبات الشارع الصيني، والتعليم النظامي في التحفيز على القراءة، إنها بالفعل رسومات تاريخية بتمثيلات الثقافة والبيئة الصينية استحقت وقت الفنانة وجهدها في إخراجها، كما تضم السلسلة التجارب المهنية القاسية التي عملت فيها الفنانة بحكم انتمائها لطبقة العمّال بالصين. 

قد كانت هجرة ليو لأمريكا وبيئتها المتنوعة الملهمة حافزًا لدراسة الفنون، ونقطة تمحورت حولها تلك الرسالة لرسم التاريخ؛ وتحقيق هوية جماعية في فترة الثورة الثقافية، فهي ترى أن التاريخ يتدفق دومًا نحو الأمام: 

“history is a verb It is constantly flowing forward.”

كما ترى القيّمة الفنية (Catie Higgins) مدى تشابك التاريخ الشخصي للفنانة مع سياق القصص المصورة للأطفال في تلك الفترة، وتوظيفها لدمج النص مع الصورة، كما هو في القصص المصورة، فيما تؤكد القيّمة الفنية (Clare Daly) أن ضربات فرشاتها المرسومة جسر إلى التاريخ، لقد أحسنت الفنانة والقيّمون الفنيون في تعزيز فهم الجمهور للمعرض، وإبراز قيمته الثقافية والتاريخية، وصنع تجربة فنية ملهمة ممتعة وذات معنى. 

المعرض بغض النظر عن أبعاده الأخرى، نموذج وثائقي رصين يرصد الخلفية التاريخية والثقافية للوحات، ويعدد مصادر الإلهام للفنانة، وكل من تلقّت الفن منه وتأثرت بأسلوبه، إنه معرض فريد يبهج النظر، ويخاطب العقل بقراءات نقدية لكل لوحة معروضة، إنه معرض تراصت لوحاته وكأنه ورقات مصورة تحكي رحلة فنان وأثر القصة المصورة في مخيلته التشكيلية، معرض يثير تساؤلات كثيرة:

ماذا حملنا من الماضي؛ فأضاء شموع الحاضر، وأسرج مشاعل المستقبل؟

إنه أكثر من كونه معرضًا… 

الصور بعدستي في يوم الافتتاح السابع عشر من يناير 2025 

هكذا يبتهج الواشنطونيون بالربيع




هكذا يبتهج الواشنطونيون بالربيع

منذ 3 أيام

10

0
 فاطمة الشريف 
 رابط المقال منشورا في 01 مايو 2025 07:13: م

 هنا
 


And the earth hath He appointed for (His) creatures, (10) Wherein are fruit and sheathed palm-trees, (11) Husked grain and scented herb. (12) Which is it, of the favours of your Lord, that ye deny? The Beneficent Chapter 

من عظيم نعم الله أن جعل الأرض وتنوّع زينتها من جغرافيا وتوبوغوافيا وبيولوجيا النبات والحيوان خلال الفصول ظاهرة نراها جلياً من خلال ملاحظة الطير والشجر والزهر… كل قطعة من الأرض يألفها البشر، ويزهر فيها الشجر موطنٌ يدعو للتأمل والسكون، وسجل لتدوين اللحظات البهيجة والذكريات السعيدة التي تستحق أن نكتب عنها…

أعمارنا تستحق توثيق تجربتنا الأرضية بروح راضية مرضية… لا سيما إن خالط ذلك التأمل عمقًا روحيًا ووعيًا جماليًا خاصًا… إنها أمنا الأرض؛ قطعٌ منها شواهدُ الله فينا وشواهد الله لنا، تروي حكايات تناغم الكائنات معها تارةً، وتمازج الإنسان في حضنها بانسجام تارة، وتعاركَه مع نفسه، أو تصارعَه مع الآخر تارةً أخرى… 

إنها الأرض ببديع خلقها وتنوع فصولها حكايات تروى…

يُظهر الربيع جماله الإلهي تدريجيًا وبسرعة مذهلة، إنه جمال استترت خلفه تفاصيل السحر في خلقه سبحانه وتعالى، وكأن الطبيعة تهمس قائلة: تمهل، ستبدأ سردية الحسن البهي، فكل لون له موعده، وكل جمالٍ يظهر في وقته… 

سردية الربيع في واشنطن ترمز إلى التاريخ والصداقة والسلام، ذات رتم ونغم منفرد، أحسنت السيدة باربرا رايت في وصف الربيع قائلة:

 ” It is a  parada “

 نعم إنه عرضٌ للحسن في أسرع تجلياته، فالربيع فيها يذكرنا كثيرًا بحروف تي. إس. إليوت في قصيدته:         

“The Waste Land” قائلاً  في شطرها الأول: (April is the cruellest month): (نيسان أقسى الشهور). 

حروف شعرية حطمت كل الرؤى المثالية للربيع في أبيات الشاعر العربي أبي تمام، التي جعلت من الربيع رسولًا ينشر الحب والعطر والبهجة قائلًا:

نَقِّل فُؤادَكَ حيثُ شِئتَ من الهوى          ما الحبُّ إلا للحبيبِ الأولِ

كمْ منزلٍ في الأرضِ يألفُهُ الفتى           وحنينُهُ أبدًا لأولِ منزلِ

أتاكَ الربيعُ الطلقُ يختالُ ضاحكاً          من الحُسنِ حتى كاد أن يتكلّما

وقد نبّه النورُ النهارَ كأنّهُ                    زُجاجةُ طِيبٍ في يَدَيْ مُتَنعِّما

مهمشة الجمال الذي جسدته تجربة الشاعر الإنجليزي وردزورث (William Wordsworth) الرومانسية المتناغمة مع الطبيعة، حيث قال:

Lines Written in Early Spring

Through primrose tufts, in that green bower,

The periwinkle trailed its wreaths;

And ’tis my faith that every flower

Enjoys the air it breathes.

لا يهم كيف قرأ الآخرون نيسان تي إس آليوت، المهم كيف وقعت حروف شطره في وجداني، نعم إنه نيسان (أبريل) العنيد القاسي كاسر الشتاء بربيعه الساحر، كيف يبهر ربيعه الذاكرة الإنسانية بقوة! مع ظواهر الربيع تتجلى هزيمة قسوة الشتاء ووحشة الأرض وعتمة الشجر، بعرائش الخضرة وأكاليل الزهر، إنها صورة صاخبة الحدث بين جميع الفصول… صورة يُعلن فيها عن ميلاد كل شيء من جديد، وبعثٍ بعد السبات والصقيع، وخضرةٍ بعد السواد والحطام، بتنوع الألوان الزاهية في غضون الأشجار، تتحول الأرض إلي لوحة فنية غزيرة الألوان.

فلله درّ الشعراء والفنانون، يمزجون الألوان لاستخلاص لونهم، ويختزلون اللغة في حروفهم، ليقدّموا لنا تفردًا لغويًا بديعًا.

ربيع واشنطن زهرة المدائن… نشيد المدن المزدهرة، مذهل! ينمو نوع من الأشجار فيها لا يتفاعل مع الفصول، فهو أخضر شامخ على مدار الشهور؛ إنها شجرة هولي الأمريكية (American Holly) دائمة الخضرة، رمز الفرح والجمال الرباني فلا يهزها خريف، ولا يكسرها شتاء، وتزداد خضرة مع خضرتها في الربيع، تذكرني بالنخلة في الواحات السعودية بسعفها الأخضر مُجسدة الصمود والثبات والنفع لجميع البشر للذة رطبها وتنوع تمرها وفوائد سعفها وجذعها، فكلٌ منهما تروي حكاية جمالٍ فريد، وشموخ دائم، ومن أسرع الأشجار استجابة للربيع أشجار الصفصاف في غضون يومين تتحول أغصانها الرقيقة اليابسة المتدلية أوراق خضراء يانعة، ويُعد شجر البلوط الأكثر انتشارًا في المدينة، والأكمل ظهورًا والأمثل تواجدًا، ومن المذهل أن هناك نوعًا من الأشجار تتحول أغصانها المنهكة إلى أغصان مزهرة ملوّنة بألوان البنفسج والوردي، ومنها تلك الأشجار الماغنوليا تتميز أوراقها بالسماكة واللمعان، وأزهارها بالحجم الكبير، وتتنوع ألوانها بين الأبيض والوردي، يقال أنها “من أقدم النباتات المزهرة، حيث يعود تاريخها إلى الزمن الأحفوري أي حوالي 95 مليون سنة، وتُستخدم في الزينة والطب التقليدي لخصائصها المهدئة.” ومن الأشجار شجرة زهور الكرز، قصة صداقةٍ خالدة، شجرة زهور الكرز (Cherry Blossoms) أو الساكورا (桜) التي ترمز في الثقافة اليابانية “برمزية العابر والجميل، حيث تعكس قصر الحياة وتدعو لتقدير اللحظات الزائلة،” وهي كذلك تظهر سريعًا وتختفي سريعا، من خمس إلى عشرة أيام يُقام على شرف ازدهارها مهرجان واشنطن الوطني السنوي احتفاءً وتخليدًا لذكرى هدية اليابان حوالي 3000 شجرة، معظمها من نوع “يوشينو” و”كوانزان” لواشنطن في عام 1912 كميثاقٍ للسلام والوئام، يزهر الربيع بألوان الحياة، تنتشر أشجارها في منطقتين هامتين للسياحة ومتعة البصر “Tidal Basin”، وحدائق منطقة “National Mall”، وقد أبدع مصورو العالم في رصد هذا التناغم الإنساني والتفاعل البيئي؛ ليرى العالم أن في زهرة الكرز سحر يغرق الأنفاس همسًا فتورق معه القلوب شوقاً إلى أرض ينشد أهلها السلام وتنشر التواد. 

ويبلغ الربيع ذروة خضرته وسحره حين تفترش الأرض سجادة عشبٍها الأخضر، تزينها الأزهار البرية في كرنفال ربيعي تتراقص فيه أزهار صفير العنب بنعومتها، والنرجس البري بتدرج لونه الأصفر، والتوليب بألوانه المتوهجة، من القرمزي الحار إلى الأبيض النقي البارد، موقظاً ذكرى حدائق التوليب الهولندية، ورمزيته إلى الحب الكامل والتجدد في الثقافة الأوروبية، وأزهار الأزاليا بتفتحها المتفجر كشلالات لونية، وأزهار الأوركيد بجمالها الملكي، وألوانها من البنفسج الغامق إلى الأبيض المخملي، في عرض متنوع لأنواع كثيرة تعكس الأناقة والغموض، منشدة قصائد الحدائق الملكية الإنجليزية في قلب الحديقة الوطنية “US Botanic Garden” هنالك تتراقص زهور الأوركيد فيها، ببتلاتها الرقيقة التي تتألق بألوان ساحرة لتروي قصة الصبر والتكيف في أحضان الطبيعة الأمريكية. ومع زهرة الوستارية بستائرها البنفسجية المتدلية همسات  تذكرنا مجددًا بالثقافة اليابانية، حيث ترمز للحب والخلود، والصبر والاستمرارية فهي تعيش لعقود طويلة، كل زهرةٍ تحكي حكاية انسجام مع الطبيعة، والتناغم مع البشر، لتلوح في الأفق لوحةً تعانق الروح قبل الجسد وتبعث الأمل وإن اشتد الألم، وأخيرًا الوردة الأمريكية فهي لحنٌ خاص، تتربع على عرش العواطف في ألوانها وجمالها، تُغني للحب والأمل ببتلاتها المخملية، تدغدغ الذاكرة بوردة الطائف العطرية التي تنافسها في عطرها العبق وإنتاجها الغزير، فلا ورد ولا زهر مثل الوردة الطائفية رمز الجمال والعبق الآسر في الثقافة السعودية.

حين يرسم الربيع ألوانه في حدائق وباحات واشنطن الخضراء، يستقبل الواشنطنيون الربيع بحفاوة وبهجة، فتتحوّل المدينة إلى لوحة طبيعية زاخرة بالألوان، وتزداد الأنشطة في الحدائق والمتنزهات، ويمارس الناس الرياضة والرسم والغناء في الهواء الطلق بكل أناقة ورقي، بالرغم من الفعاليات الموسيقية والمهرجانات المجتمعية، ألا إن الربيع في أحضان الطبيعة احتفاء هادئ بالحياة والجمال. 

بالفعل تضفي الحدائق العامة والفعاليات المصاحبة تنوعًا لونيًا رائعًا للربيع، حيث تتوفر في المدينة أكثر من 600 حديقة ومتنزه، ما يجعلها من أكثر المدن الأميركية خضرة وتنوعًا في المساحات العامة، ففي الحدائق العامة الزهر الشجر والطير يبتهج في الربيع معلنًا ألفة بين الطيور والسنجاب والبشر…

الربيع على صفحة أي أرض سردية من الجمال والعبق لا تنتهي… ومن قصص تلك السردية تألق اسكتشات السيدة باربرا رايت في ربيع حدائق واشنطن الساحرة، في ظهيرة كل خميس طوال أشهر العام، تلتقي السيدة باربرا مع مجموعتها المبدعة في إحدى مواطن الجمال بواشنطن (متحف أو حديقة)، تدخل كل مكان وكأنها تعانق قلبًا يعرفها، ويرحب بها كل مكان وكأنها سيدة المقام، نسيم الربيع في الطبيعة يداعب معطفها المفتوح، وقبعتها تتمايل بخفة فوق شعرها الرمادي كزهرة توليب لا تنحني، تمشي بين الأشجار المزهرة بخطى واثقة كأنها تعرف دروبها، ذات مرة وقفت عند شجرة ماغنوليا، تلمس جذعها كأنها تهمس بلقاء مؤجل: عدتُ مجددًا لأرسم سحر الربيع، تغمرها رائحة الورد والنرجس، فتتنقل بين الألوان كما تتنقل الذاكرة بين الفرح والحنين.

وفي حدائق واشنطن العامة، تنسج السيدة جرتشن خيوط صداقة دافئة مع الطيور والسناجب، تُطعمها المكسرات والحبوب التي تختارها بعناية لهم، وتناجي كل باسمه لتُضفي على لقائهم طابعًا شخصيًا حميمًا، لا تراهم كائنات عابرة، بل أصدقاء لها في طقسها الشبه يومي من الود والتزاور، حيث تتحوّل لحظات التغذية إلى طقوس صامتة من الألفة والمحبة، وتحرص على تفقده صديقها السنجاب (Black II)، تناديه وتحادثه كصديق قديم يعود بعد غياب، لكل فرد من المجموعة طقس خاص به، وقد أخذ كل منهم جلسته على مقاعد خشبية بجوار الزهر والشجر في استقبال للربيع أن يكتب فيهم ما يشاء، على أن يرسموا له ما يرون، إنها الطبيعة لا تزهر فحسب… بل تتألق بحب وسلام  وتكتب الذكريات.

ومن أجمل الفعاليات على الصعيد الشخصي، ما يعمد إليه بعض الفنانين والفنانات من تحويل منازلهم إلى فضاءات نابضة بالربيع؛ حيث تتناغم الأزهار مع اللوحات، وتذوب الحدود بين الفن والطبيعة. هكذا اعتادت أن تفعل الفنانة كِلى بفتح أبواب بيتها مع تفتّح أول أزهار الربيع، وتدعو الفنانين وكل من يحمل الهوية التشكيلية ليتحوّل منزلها إلى معرض حيّ يحتفي بالجمال في أرقى تجلياته. تتناثر اللوحات على الجدران، فيما تعبق أركان المنزل برائحة الزهور، وتتخلل الأمسية أحاديث ناعمة عن الضوء واللون، عن الإلهام والمواسم، حتى يصبح البيت نفسه قطعة فنية، والربيع ضيفًا مقيمًا لا يُودّع.

كل يوم على ألوان الربيع وأنغام الطبيعة الساحرة يكون الاحتفاء الحقيقي والساحر الهامس والجمال الكوني للطبيعة، وعلى الهامش تأتي إقامة المهرجانات الوطنية، والتي يقدر عمرها بالعقود من الزمن، ومن من أبرزها: مهرجان  Smithsonian Folklife Festival، ومهرجان “DC Jazz Festival في الحدائق وعلى ضفاف النهر والمحيط، ومهرجان الكتب واللوحات الانتيك Flea Market، وجولة على بيوت جورج تاون House Tour، ومعارض الربيع في المتاحف والمكتبات Spring Exhibitions، ومراكز ودور الفن التشكيلي والبازارات الحرفية مثل Make ShopIN DC، عروض أطعمة وحلوى الربيع بنكهات الورد والتوابل في Farmers Market. 

هكذا يبتسم الربيع في أغلب شوارع واشنطن عندما يقف الزوار لقراءة قصائد الهايكو اليابانية لسهولة قراءتها فهي تتكون من ثلاثة أسطر، كل سطر به عدد محدد من المقاطع… إنه الربيع حيث الزهر والشعر في قصة من سردية ربيع واشنطن… 

بعدستي صور الربيع:

اسكتشات باربرا بعدستي (Barbara Wright) في ربيع 2025

عدسة جرتشن (Gretchen Obert) مع الطيور والسناجب

لوحات الورد في معرض كلي 2025 بعدستي (Kelly Dinglasan Minton)

 عدسة  فاطمة (Fatimah Al-Sharif) لزهور ربيع واشنطن 2025

المعرض (الــ٢٣) والكتاب (الــ٧) للفنان أحمد فلمبان..في “جاليري تجريد” بالرياض

يفتتح الدكتور عبدالعزيز السبيل الأمين العام  لجائزة  الملك فيصل   في جاليري تجريد للفنون بمدينة الرياض  مساء يوم الأربعاء 28 ربيع الأول  144...