مقتطفات من كتاب العقاد التفكير فريضة إسلامية





التفكير فريضة اسلامية


ترك المفكر الكبير الراحل عباس محمود العقاد مؤلفات مهمة في
 مجال الفكر الاسلامي، غير أن كتابه (التفكير فريضة اسلامية) يظل واحدا من أهم هذه الكتب، فبالاضافة الى أنه يوضح الى أي مدى يحث الاسلام على أهمية العقل والفكر،
يبين أيضا أنه كلما تم التنقيب فيما جاء به القرآن الكريم، سنجد أنه يحتوي على الكثير من الأسرار فيما يتعلق بالفكر، ويقول العقاد في هذا الكتاب: إنه من مزايا القرآن الكثيرة مزية واضحة يقل فيها الخلاف بين المسلمين وغير المسلمين تثبتها الأيام ثبوتا تؤيده أرقام الحساب ودلالات اللفظ اليسير، قبل الرجوع في تأييدها الى المناقشات والمذاهب التي قد تختلف فيها الآراء. وتلك المزية هي التنويه بالعقل والتعويل عليه في أمر العقيدة وأمر التبعية والتكليف. ويضيف المؤلف أنه في كتب الأديان الكبرى اشارات صريحة أو مضمونة الى العقل أو الى التمييز، ولكنها تأتي عرضا غير مقصودة، وقد يلمح فيها القارئ بعض الأحايين شيئا من الزاوية بالعقل أو التحذير منه لأنه مزلة العقائد وباب من أبواب الدعوى والانكار.
يواصل العقاد حديثه عن العقل وموقعه في الاسلام، فيقول أن القرآن الكريم لا يذكر العقل إلا في مقام التعظيم والتنبيه الى وجوب العمل به والرجوع اليه، ولا تأتي الاشارة اليه عارضة ولا مقتضبة في سياق الآية، بل هي تأتي في كل موضع من مواضعها مؤكدة جازمة باللفظ والدلالة، وتتكرر في كل معرض من معارض الأمر والنهي التي يحث فيها المؤمن على تحكيم عقله أو يلام فيها المنكر على اهمال عقله، وقبول الحجر عليه. ويضيف العقاد: أنه لا يأتي تكرار الاشارة الى العقل بمعنى واحد من معانيه التي يشرحها النفسانيون من أصحاب العلوم الحديثة. بل هي تشمل وظائف الانسان العقلية على اختلاف أعمالها وخصائصها، وتتعمد التفرقة بين هذه الوظائف والخصائص في مواطن الخطاب ومناسباته، فلا ينحصر خطاب العقل في العقل الوازع أي الذي يحول بين صاحبه وما يشتهيه على أساس أخلاقي، ولا في العقل المدرك ولا في العقل الذي يناط به التأمل الصادق، والحكم الصحيح، بل يعم الخطاب في الآيات القرآنية كل ما يتسع له الذهن الانساني من خاصة أو وظيفة، وهي كثيرة لا موجب لتفصيلها في هذا المقام المجمل، إذ هي جميعا مما يمكن أن يحيط به العقل الوازع، والعقل المدرك، والعقل المفكر الذي يتولى الموازنة والحكم على المعاني والأشياء.
يحدد العقاد خصائص العقل في ثلاث هي. الادراك. والتأمل، والرشد، ويقول أن فريضة التفكير في القرآن الكريم تشمل العقل الانساني بكل ما احتواه من هذه الخصائص، ويأتي العقاد بآيات قرآنية كثيرة عن العقل والتفكير، والتي تقرر ولا جرم فريضة التفكير في الاسلام.. من هذه الآيات.. قوله تعالى: (وتلك الأمثال نضربها للناس، وما يعقلها إلا العالمون). وقوله تعالى: (يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا، وما يذكر إلا أولوا الألباب). وقوله تعالى: (خلق الانسان علمه البيان). وقوله تعالى: (الذي علم بالقلم. علم الانسان ما لم يعلم) صدق الله العظيم.
تبين هذه الآيات أن التفكير فريضة اسلامية، وأن العقل الذي يخاطبه الاسلام هو العقل الذي يعصم الضمير ويدرك الحقائق ويميز بين الأمور ويوازن بين الأضداد ويقتصد ويتدبر ويحسن الادراك والرؤية.
إن الدين الاسلامي كما يقول العقاد دين لا يعرف الكهانة، ولا يتوسط فيه السدنة والأحبار بين المخلوق والخالق، ولا يفرض على الانسان قربانا يسعى به الى المحراب، بشفاعة من ولي متسلط أو صاحب قداسة مطاعة، فلا ترجمان فيه بين الله وعباده يملك التحريم والتحليل ويقضي بالحرمان أو بالنجاة، فليس في هذا الدين إذن من أمر يتجه الى الانسان عن طريق الكهان، ولن يتجه الخطاب إذن إلا الى عقل الانسان حرا طليقا من سلطان الهياكل والمحاريب أو سلطان كهانها المحكمين فيها بأمر الإله المعبود فيما يدين به أصحاب العبادات الأخرى بقوله تعالى: (فأينما تولوا فثم وجه الله).
ينتقل العقاد في كتابه الى ما يسميه بالموانع والأعذار، ومقصده في ذلك هو الموانع التي تعطل العقل عن التفكير، ويقول أنها كثيرة يستقصيها القرآن الكريم كما استقصى خطاب العقل بجميع وظائفه وملكاته. ويقول، ان أكبر الموانع في سبيل العقل تتمثل في عبادة السلف التي تسمى بالعرف، والاقتداء الأعمى بأصحاب السلطة الدينية، والخوف المهين لأصحاب السلطة الدنيوية، ويضيف: الاسلام لا يقبل من المسلم أن يلغي عقله ليجري على سنة آبائه وأجداده ولا يقبل منه أن يلغي عقله خنوعا لمن يسخره باسم الدين في غير ما يرضي العمل والدين. ولا يقبل منه أن يلغي عقله رهبة من بطش الأقوياء وطغيان الأشداء، ولا يكلفه في أمر من هذه الأمور شططا. يقول تعالى: (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت).
وعن المنطق والفلسفة يتحدث العقاد في مؤلفه، ويشير الى موقف الاسلام من الفلاسفة، وموقف الفلاسفة من الاسلام، ويقول أنه يبدو من كلا الموقفين أن العقيدة الاسلامية لم تنقبض عن لقاء الثقافات الأجنبية عند التقائها بها في المفاجأة الأولى، ويضيف أن موقف الاسلام من حكمة الحكماء في العصور الأخيرة كموقفه منها في صدر الدعوة الاسلامية. إن الاسلام لا يضيق بالفلسفة لأنها تفكير في حقائق الأشياء، لأن التفكير في السماوات والأرض من فرائضه المتواترة، ولكن المذاهب الفلسفية قد يظهر فيها ما يضر بالاسلام ويخالفه حينا بعد حين، ولا تثريب على عقيدة تخالفها بعض العقول، لأن العقائد لا تطالب بموافقة كل عقل على سواء أو على انحراف، وحسبها من سماحة أنها لا تصد عقلا عن سواه.
وعن العلم يقول العقاد، أنه في الاسلام يتناول كل موجود. وكل ما يوجد فمن الواجب أن يعلم، فهو علم أعم من الذي يراد لاداء الفرائض والشعائر، لأنه عبادة أعم من عبادة الصلاة والصيام، إذ كان خير عبادة الله أن يهتدي الانسان الى سر الله في خلقه وأن يعرف حقائق الوجود في نفسه ومن حوله.
أما عن الفن الجميل فيقول العقاد. إنما يقاس نصيب الفن الجميل من الدين بنظرة الدين الى الحياة. والاسلام بين الأديان قد انفرد بقبول نعمة الحياة وتزكيتها والحض عليها وحسبانها من نعمة الله التي يحرم على المسلم رفضها ويؤمر بشكرها، وغيره من الأديان بين اثنتين: فأما السكوت عن التحريم والايجاب معا، أو التصريح القاطع بالتحريم والتأثيم. فإن الاسلام يحل الزينة، ويزجر من يحرمها، ويصف الله بالجمال، ويحسب الجمال من آيات قدرته وسوابغ نعمته على عباده. ففي خلق الأرض زينة، وفي خلق السماء زينة. يقول تعالى (إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا).
وعن المعجزة يقول العقاد: الاسلام دين المعجزات التي يراها العقل حيثما نظر، وليس بدين المعجزات التي تكف العقل عن الرؤية وتضطره بالافحام القاهر الى التسليم، والاسلام دين متناسق مستجيب للفهم والموازنة بين الأمور، فهو دين المعجزات في كل شيء ولكنه ليس بدين المعجزة التي تفحم العقل ولا تقنعه، لأنه دين العقل. والتفكير فريضة فيه. وينتقل العقاد بعد ذلك الى الحديث عن الاجتهاد في الدين. ويقول أن مصادر الشرائع والأحكام في الدين الاسلامي ثلاثة. الكتاب، والسنة، والاجماع، ويقوم الاجماع على اجتهاد أولي الأمر، وأهل الذكر بما اشتمل عليه من قياس واستصحاب أو مصالح مرسلة. أي مصالح لم تتقيد بحكم خاص ينطبق عليها في جميع الأحوال وجميع الأزمنة، ولكنها من المتغير التي ينظر فيها المسلمون الى 
مصالحهم بحسب أحوالهم وأزمنتهم

بقلم د صلاح المعمار

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

(12) مجالا لخطة 2024

قانون كونفوشيوس – قانون الغربنة في التدريب

كساء التوبة الضافي ... تأملات

مزاج البسطاء

تقنية السكينة السريعة للبروفيسور عبدالله العبدالقادر (Quick Coherence Technique )

قراءة فنية لجدارية كيث هارينغ