الأبواب في التراث السعودي
- الحصول على الرابط
- X
- بريد إلكتروني
- التطبيقات الأخرى
النّجارة من الحرف القديمة المهمة، والتي تقوم على نشر وحفر وإصلاح الخشب لأغراض البناء في أبنية القصور، والمنازل السكنية، والمساجد، وصناعة الأثاث، وأواني الطعام، والمنابر والمقاصير في المساجد، وفي سقوف وأبواب وشبابيك المباني، وفي تقوية السلالم، فالنجارة ممارسة بشرية ذات معارف ومهارات تشكّل جزءً هامًا من التراث الثقافي.
ومما تجدر الإشارة إليه من كتاب (المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) للمؤلف الدكتور جواد علي أن مهنة النّجارة قديمًا ذات تخصصات، وصناعات فرعية متعددة: فقد كان هنالك تخصص القِداحة لصناعة أقداح الطعام، يُعمل ما رقَّ واتسع وغلظ من الأقداح مثل (الجفنة، والقصعة، والصحفة، والمئكلة، والصحيفة)، وهنالك الأقداح المنحوتة من الخشب، والمعروفة بنقوشها المتنوعة مثل (الروسم أو الروشم وهو خشبة فيها كتابة منقوشة يختم به الطعام لئلا يسرق منه)، وهنالك أيضا (النورج وهو المدوس الذي يداس به الطعام)، و(الهاون أو المهراس الذي يطحن به ما يبس من الطعام) و(المنحاز الذي يدق به اللحم أو الحبوب لسحقها)، ومن الأدوات التي صنعها النّجار العربي (الميتدة وهي مطرقة من خشب لدق أوتاد خيمة في الأرض)، ومن المصنوعات الخشبية التي برع فيها النّجار العربي صناعة أبواب البيوت، وصناديق الخشب المزخرفة أو المحفورة؛ لخزن الأشياء فيها، وتقفل بقفل، ومراكب النساء على الأبل مثل (الهودج وهو عبارة عن مركب يصنع من العصي، ثم يجعل فوقه الخشب فيقبب)، و(الحدوج وهو مركب ليس بالرحل الذي هو لمتاع المسافر ولا الهودج الذي هو لمركب النساء).
صناعة الأبواب في تراث النجارة السعودي حرفة إبداع وإتقان، وتؤكد على ما يحمله الباب من سمات رمزية في همس النثر وبوح الشعر، فهذا الشاعر العراقي أحمد مطر في قصيدته الطويلة (أحاديث الأبواب)، التي تحكي معاناة الخشب مع التمدن حتى يصير بابا، صور رمزية غارقة في معاني التسليم والتحمّل وقسوة الحياة وضروب الجور العدوان:
(1)
(كُنّا أسيادًا في الغابة.
قطعونا من جذورنا.
قيّدونا بالحديد. ثمّ أوقفونا خدمًا على عتباتهم.
هذا هو حظّنا من التمدّن.)
ليس في الدُّنيا مَن يفهم حُرقةَ العبيد
مِثلُ الأبواب !
يحمل الباب أحيانا دلالات تاريخية مسطرة على جبين الزمان، فقد يكون رمزا عريقا للمكان يرتبط بالهداية والاسترشاد، مثل باب المسجد الحرام في فصل النزاع بين قبائل قريش عند حادثة ترميم الكعبة فيمن يرفع الحجر ويضعه في مكانه، فدخل الحكم الأمين، والفصل ذو الرأي السديد عليه أفضل الصلاة، وأزكى التسليم، وأشار إليهم بأن “تأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب، ثم أرفعوه جميعا، ففعلوا حتى إذا بلغوا به موضعه وضعه هو بيده وبنى عليه.“، وقد يكون الباب مَعلما ثمينا يدل على الآثار والبطولات مثل باب حصن المصمك، وقد يعكس دلالة نفسية تسبر مشاعر وأحاسيس الإنسان، حيث يعد الباب من أكثر التجاويف المكانية التي ترمز إلي الحرمة والحماية والحيطة، وقد يكون صورة جمالية في معروضات التراث والتشكيل، هنالك أبواب تثّمن بتاريخها مثل باب الكعبة المشرفة، وأخرى تُقرأ بزخارفها وألوانها مثل الأبواب في العمارة العربية، وقد تفتح لك أبواب من السرد والأسطورة كأبواب الحضارات السابقة، وأخرى تُغلق ولا تفتح أو تكسر أبدا أجارنا الله وإياكم منها..
في فن العمارة عموما تتعدد صور الأبواب فهنالك الأبواب الخارجية، وأبواب المرافق الداخلية، وهناك باب بمصراع واحد عادة ما يكون لمرافق الدور الداخلية بعدة أحجام مختلفة، وباب بمصراعين ويكون في الغالب لمداخل المساكن والدور والأسوار.
وعند الحديث عن الأبواب التقليدية في التراث السعودي تحديدا نجد أن صناعة الأبواب فن تمّيز بها إرث أجدادنا، وهي حرفة لازال يتناقلها الأجيال، فالأبواب القديمة نوعان: النوع الأول وهو الأقدم، والمصنوع من جذوع النخل على شكل ألواح مستطيلة يقوم النجار بقطْعِه إلى أن يأخذ شكله النهائي، وهنالك باب جريد النخل بدون مسامير، والنوع الثاني والمصنوع من خشب الأثل وهو الدارج والأكثر استخدامًا في الماضي، وتنوعت صناعتها تبعا للمنطقة التي يُصنّع فيها، والغرض التي يُستخدم منها:
أبواب المنطقة النجدية تعد تحفة فنية وتراثية فائقة الجمال، حيث أنها مصنوعة من أخشاب الأثل والنخيل، أو ألواح الخشب بأشكاله المنحوتة، ويتم تزيين بعضها بأشكال هندسية مطلية بألوان متعددة، وتأتي على شكل درفتين أو درفة واحدة، وكذلك الأبواب الحجازية ذات تصميم مميز، فالأبواب والنوافذ المسماة بـ (الروشان) مصنوعة من الخشب الآتي من وداي فاطمة، وتحمل زخارف ونقوش إسلامية محفورة، ويعد التجصيص المقصوص والمزخرف على أطراف الأبواب ميزة لبعض تلك البيوت، وبعض تلك الأبواب صُنعت من لوحين ثقيلين من خشب الساج، المزين بنقوش محفورة، وتحتوي بعض هذه الأبواب على فتحة للرؤية، أو أبواب صغيرة في وسطها، وزينت الأبواب بمفصلات ثمينة ومطارق حديدية علقت عليها، ومن الأبواب الشهيرة كذلك بالمملكة (الباب المسماري، وباب المقطع، وأبو صاير، وأبو خوخة، والباب البغدادي، والبادوري)، ومن الأبواب المستوردة من بعض مناطق الخليج العربي (باب البحر)، والذي يمتاز بصلابة خشبه وزخارفها الجميلة والملونة، ومنها ما تمتاز بالتعاشيق والحفر، ومن الأبواب الكبيرة (أبواب الدروازة)، والتي تستخدم عادة في مداخل الأسوار القديمة، وللبيت القديم أبواب بمسميات دارجة منها باب القهوة وباب الدار وباب الحوش.
وقد أكد الباحث السعودي سعيد بن عبدالله الوايل في كتابه “الأبواب والنقوش الخشبية التقليدية في عمارة المنطقة الشرقية”، أن لكل باب ميزة ينفرد بها، فبعضها تتكون من قطعة واحدة، وبعضها من قطعتين إحداهما ثابت، وأن الزخارف والأشكال الهندسية تعد سببًا في تسمية تلك الأبواب، ومن أشهر الأبواب قديما: (الباب المسماري) عُرف بصفته أشهر الأنواع الخارجية نظرًا لقوته وتماسكه، ويحتوي على مجموعة كبيرة من المسامير الحديدية المقببة، وتصف بأشكال متعددة: دائرية، أو خطوط طولية، أو عرضية، ويمكن أن تطلى باللون الأسود، أو تترك بلونها الذهبي، ويتكون من مصرعين يكون أحدهما شبه ثابت، وله شرائح طويلة يُطلق عليها (درّاب) تتماسك مع بعضها بواسطة قطع خشبية قوية تتعامد معها في الخلف تسمى الأضلاع (ضواريب)، ويصنع الباب من خشب السدر والأثل، ويعد (باب أبو خوخة) من الأبواب الكبيرة المعروفة في منطقة الخليج العربي أيضًا، وهو في الغالب باب ثقيل ضخم يكون في الأبواب ذات مصرعين، له باب صغير يسمى خوخة، يفتح لدخول الإنسان لتلافي تكرار فتح المصارع نظرا لثقل حجم الباب الأكبر، وتلافيا لتحريك المصارع، والمحافظة على خصوصية أهل البيت، ويذكر باحث التراث الكويتي صالح محمد المذن أن (باب أبو خوخة) يوجد في العديد من دور وقصور مساجد الدول العربية مثل نجد السعودية، والكويت، وسيدي بوسعيد التونسية، وفاس المغربية، ويمكن أن يكون هذا الباب مسماريًا إذا زُيّن بالمسامير الحديدية، ودُهنّ بزيت السمك للحفاظ عليه من التلف، وإعطائه لمعانًا وبريقًا، ووُضع في منتصفه خشبة لإحكام الغلق وتسمى (الخشم)، ومن الأبواب الكبيرة أيضا (باب أبو صاير)، ويوضع في الغالب في المدخل المؤدي لحضيرة البهائم ونحوها، ويتكون من شرائح خشبية مرصوصة بجانب بعضها مؤلفة مصراع الباب، وخالية تماما من أي نقوش أو زخارف، والصاير عمود الارتكاز يأتي في أحد طرفيه، ويعد (الباب البغدادي) من الأبواب الحديثة نسيبا في العمارة التقليدية، انتقل من العمارة العراقية إلى المنطقة الشرقية، وله حضور في منطقة الأحساء ودولة البحرين، ويصنع من ألواح عريضة دون اللجوء إلى توصيلات كثيرة، وله حليات وخطوط زخرفية مفرغة ومثبتة، وهنالك (الباب البادوري) الذي أخذ أسمه من (مسمار البادوري) الذي يستخدم لربط أجزاء الباب مع بعضها بمسامير ذات رؤوس دائرية كبير مسطحة.
وللباب أجزاء يُعرف بها مثل قديمًا: (النجران) وهو الخشبة التي تدور فيها رجل الباب، (الرتاج) لأنف الباب مثل رتاج الكعبة، والمترس (القُنَّاح والنجَّاف) للإحكام غلق الباب، وهو القفل في الباب، وهي وحدة التحكم في الدخول والخروج، وقد أخذ القفل أشكالًا متعددة بالحديد والخشب، له وحدات زخرفية من الخطوط والنقوش على أجزائه الأمامية، وللباب (إِفريز) وهي الإطار المحيط به، ويؤكد الباحث الوايل تصنع في الغالب من خشب الأثل، وله مجموعة من الحشوات الخشبية والأشرطة الزخرفية، و(خشم الباب) ويكون في الوسط ممتدًا من الأعلى إلى الأسفل، ويأخذ صبغة جمالية مليئة بالنقوش، وتتنوع مسميات الخشم تبعًا للنقشة التي تعتليه، ومنها (خشم مدرج ومسكتي، وخشم بوجرو، وخشم بوخوازرين)، و(المطرقة المعدنية) وتوضع في صدر الباب لطرق على الباب، ولها عدة أشكال أشهرها (الطاسة) عبارة عن نصف كرة معدنية ذات قاعدة دائرية مسننة.
إن الأيدي ذات العضلات المفتولة مع فطنة وذكاء النجار الذي تمرّس في حرفته، وأتقن مهارات القص والتشذيب، والقطع والثقب، والتقسيم والربط والطرق، قدّم إرثا في العمارة والتصنيع تحفظه وتشكره عليه الأجيال على مر الأزمان.
- الحصول على الرابط
- X
- بريد إلكتروني
- التطبيقات الأخرى
تعليقات
إرسال تعليق