العم علي عاش بهمةٍ ومات بصحةٍ

 




عند المدخل الغربي لمكة القداسة والكرامة والطهر، والأقرب إلى ثنية كُدا من جهة الشبيكة، تلك الحارة التي اقترنت باسم خالد بن الوليد عندما دخل مكة في يوم الفتح 8 هـ، ترآت أمام ناظري أزقة الحارة بما حوت في جنباتها من معالم وأبنية، فهناك مدرسة الفلاح أول مدرسة نظامية في المملكة العربية السعودية (1362)، و(قهوة الحَمّارة) ملتقى القادمين من جدة، و(السؤال) مركز المطوفين لاستقبال الحجاج ونقلهم إلى سكنهم، وأروقة ومحلات نابضة بالحياة والجد، وبيوت مكة القديمة بأبوابها ورواشينها العتيقة ذات المنمنمات الزخرفية، وأصوات المارة والمشاة والباعة عالم مليء بالذكريات والقصص والشخصيات.

على صهوة الذاكرة معتلية ذكريات الماضي البهيج بطقوس وشخوص تعلّمنا منهم الدقة والأناقة والإتقان، تموج بي الذكريات لتقف بي على عتبة منجرة العم علي -رحمه الله- (أشهر نجارين السبعينات في حارة الباب من جهة الشبيكة) العم علي رجل ذو قامة وهامة، يعتلي رأسه دوما الطاقية المنشاة، أو كوفية جملون منتصبة، وملفوفة عليها عمامة برتقالية اللون، مرتديًا ثوبًا أبيضًا وحزامًا يشد به الوسط، يقف وسط منجرته وعن يمينه أخشاب الساج والأبنوس والعندل مصفوفة بعناية فائقة، فهي مستوردة بمبالغ باهظة الثمن من الهند وأفريقيا، وعن شماله بعض من خشب (النضار) وهو خشب غليظ بعض الشيء ينبت شجره في غور الحجاز وبعض أشجار اليمن والمناطق الجبلية الأخرى. 

كان عم علي مبدعًا في مهنته، محترفًا للعديد من مصنوعات الخشب مثل: صناعة الرواشين، والأبواب الداخلية والخارجية للبيوت، وصناديق الخشب المزخرفة أو المحفورة، وكان يشارك نجاري جدة في صناعة صغير السفن والقوارب البحرية لصيادي ساحل جدة الغربي، ويستعين في صنعته بجملة من الأدوات لقطع الخشب وتنظيمه وصقله وهندسته لجعله صالحًا للعمل: مثل الفأس على اختلاف أنواعها، والمنشار لقطع الأخشاب والأشجار، والمحفار آلة حديدية يحفر بها، وتستعمل في حفر الخشب لأغراض متعددة، مثل نقشه بالنقوش الهندسية أو الكتابة عليه، والمنقار وهو آلة حديدية كالفأس مستديرة لها خلف ينقر بها ويقطع بها الحجارة والأرض الصلبة والخشب، والمثقب آلة يثقب بها، والكلبتان آلة يستعملها النّجار والحداد يستعملها النّجار في إخراج المسامير أو الدسر لشد الخشب بعضه مع بعض، وكذلك المسحل، والأوتاد ومن الأدوات التي يستعين بها أيضًا في قياس تربيع الخشب (الكُوس) وهي خشبة مثلثة، وكذلك القلم والمسطرة، ويساعده في تلك الأعمال بعض من صبيان الجنسية الحضرمية والنيجرية بكل خفة وهمة ورغبة في التعلم واكتساب الحرفة.

يخرج كل يوم من بيته الواقع على قمة جبل عمر فجرًا؛ ليصلي الفجر في مسجد خالد بن الوليد الذي هو مكان رايته -رضي الله عنه- يوم فتح مكة، وقد أزيل عام 1431هــ، ومكانه اليوم ضمن توسعة الحرم المكي الشريف، ثم يبدأ عمله في المنجرة من الصباح حتى غروب الشمس، ثم يعود إلى منزله بعد صلاة المغرب، ويتناول طعام العشاء واحتساء شاي المساء على أصوات نارجيلته وكوكبة الشرق عبر الراديو، ثم ينام نومًا عميقًا ليعمل في منجرته أجمل الأبواب والصناديق والأقداح..

هكذا عاش العم علي بهمة ومات بصحة. 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

(12) مجالا لخطة 2024

قانون كونفوشيوس – قانون الغربنة في التدريب

قراءة فنية لجدارية كيث هارينغ

وقفة مع المسرح المدرسي في مدارس تعليم الطائف

تقنية السكينة السريعة للبروفيسور عبدالله العبدالقادر (Quick Coherence Technique )

الرحلة العلمية لبرنامج دبلوم العلاج بالفن