الإبل: رمز فخر وزينة وحداء
وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا ۗ لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6)وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَىٰ بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنفُسِ ۚ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ (7) وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً ۚ وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8) [النحل]
يلعب الحيوان دورًا مهمًا في حياة الإنسان، وبينهما علاقة وطيدة تُبنى على المنافع والمصالح، بجميع أنواعه وهبه الباري من الدلائل والقدرات الربانية ما يجعلنا ندرك أهمية ذلك في تحقيق دور الخلافة على هذه البسيطة، بل تتنوع تلك العلاقة فنرى مثلاً أن هنالك علاقة مودة وضحك ولعب مع القطط، وعلاقة فن وشعر وجمال مع الخيل، وعلاقة نثر وشعر وغزل مع المها، وعلاقة فخر وغناء وزينة مع الإبل…
عند تلاوة سورة الغاشية في القرآن الكريم، والوقوف على الآية
أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (8)
نتساءل إلى ماذا ننظر في الإبل؟ ما هي دلائل القدرة العظيمة عند النظر في هذا المخلوق العجيب؟ ما مواطن الجمال والإبداع في هذا الخلق البديع؟ ما المنافع والعبر من هذا الخلق العظيم؟ وما علاقة الإنسان مع الإبل؟
يذكر والدنا الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله- في موقعه الرسمي عند الشرح لهذه الآية “هذه الإبل التي جعلها الله للناس متاعًا يحملون عليها أثقالهم، ويأكلون من لحومها، ويشربون من ألبانها، ويوقدون من بعرها، ويستمتعون بجلودها، لهم فيها منافع عظيمة، لهم فيها منافع كثيرة، …”
من دلائل قدرة الله سبحانه في هذا المخلوق العجيب، الهيئة التي خلقه الله بها فجعلته حيوانًا مميزًا، فله أذنان صغيرتان قليلة البروز مغطاة بالشعر وذات قدرة على الالتصاق بالرأس، أما منخراه شقين ضيقين ومحاطة بالشعر قابلة للتحكم بالفتح والإغلاق، وله عينان ذات رموش معكوفة قابلة للطبق، كل ذلك لحمايته من رمال الصحراء وعواصفها، وله قوائم طويلة تساعد على خفة الحركة واتساع الخطوة، وللقدمين خف جلدي قوي غليظ مبطن بوسادة عريضة لينة تتسع عندما يسير فوق الرمال بكل سهولة ويسر، وله عنق طويل مرن يساعده على التقاط ما على الأرض وما فوق الشجر، والشفة العلوية مشقوقة تساعده على أكل أوراق الأشجار الشوكية دون ضرر، وله وسائد في مفاصل الأرجل ومقدمة الصدر مغطاة بجلد سميك تمكنه من الافتراش على الرمال الحارة دون التأثر بحرارتها وأيضًا تحافظ على اتزانه أثناء البروك، أما سنام الجمل على الظهر يعد مخزن الطاقة والغذاء والماء، ووجوده يضمن للجمل التأقلم مع الحرارة، والتكيف مع المعيشة في ظروف الصحراء.
يعد رعي الإبل من المهن القديمة والشائعة في صحراء المملكة العربية العربية، وراوينا عن هذه المهنة إبراهيم الضوان البلوي مالك أحد مرابض الإبل بالعُلا يؤكد تمسكه وأهالي العلا بمهنة رعي الإبل، وأنهم أكثر اهتمامًا بالإبل وحرصًا على التمسك بتراث أجدادهم، كما أشار إلى أن لكل قبيلة في المنطقة وسم خاص بها يتم وشمه على رقبة الإبل أو فخذها، للتأكيد على تبعيتها للقبيلة؛ حفاظًا على حقوق الناس ومنعًا للمشاكل، وعن تفاصيل المهنة يحدثنا قائلًا:
إن رعي الإبل مصدر للرزق، ومصدر هام للحصول على اللحم واللبن، وينفع الحليب والبول في العديد من الأغراض العلاجية المجربة منه شخصيًا مثل: تنظيف المعدة، والتهابات القولون. وتعد مهنة تجارية مربحة لاسيما أن الفحل الواحد يستطيع تخصيب إناث عدة ينتجن صغار الإبل، يطلق على بعض صغار الإبل المزايين (الحيران) ويتم بيعها في مهرجان مزاين الإبل بمبالغ تتراوح ما بين خمسين ألف ريال إلى ثلاثين مليون، ومن أغلى أنواع الإبل (الوضح) الإبل ذات اللون الأبيض (وهو الأغلى)، و(الحُمر) حمراء اللون، والصُفر، منوهًا أن الإبل تعيش لمدة تصل إلى 35 سنة.
ومما تجدر الإشارة إليه أن الإبل نوعان: (المجاهيم) تتميز بالألوان الغامقة، والداكنة، والتي تصل إلى السواد، ومنها الإبل الصهب، وصفراء المجاهيم، والإبل الزرق، وتتميز بأن حجمها كبير، وإدرارها للبن كثير، وباهظة الثمن، حيث تتراوح أسعارها ما بين ستة ملايين للأنثى إلى خمسة عشر مليون للذكر، والنوع الآخر (المغاتير) وهي الأجمل والأوسط من حيث الحجم والإنتاج، ويطلق عليها اسم إبل العفر أو إبل الوضح، ومنها إبل الشقح، والحمر، والصفر، وتختلف المجاهيم عن المغاتير في حجم الأذن، والخف، والذيل، حيث تميل المجاهيم دوما إلى العرض والكبر والطول في هذه الأعضاء عن المغاتير.
ومما يميّز الإبل بعضها عن بعض مواطن الجمال، والتي تسبّب تفاوتًا في الأسعار، ويعد الرأس مكمن الجمال، فكلَّما كانت السبال (البراطم) طويلة، والعرنون (الأنف) مرتفعًا، واللحى طويلة، والخد عريضًا كان ذلك أفضل، ويكمن جمال الإبل أيضا في الرقبة والسنام، حيث تفضل أن تكون الرقبة طويلة، ومنطلقة للأمام في ارتفاع، مع اتساع نحر الناقة، وتكون عظام القوائم كبيرة وطويلة، وأن يكون السنام راجعًا للخلف.
وعن مهنة الرعي يذكر إبراهيم الضوان البلوي : “كانت الإبل أو الأغنام قديمًا ترعى في الأماكن التي تسقط عليها الأمطار، وتتحرك من موقع إلى آخر بناء على ذلك، لكن الآن مع قلة تساقط الأمطار، أصبحت الإبل تأكل من الشعير والبرسيم وغيرها من الأعلاف التي تتم زراعتها أو شراؤها” فيما يؤكد راعي الإبل ماجد الضوان البلوي: “ينتعش عملنا في موسم الربيع، حيث نطلق الإبل في الساعة السادسة والنصف صباحًا لترعى طوال اليوم حتى وقت مغيب الشمس، لنقوم بعدها بربطها وحلبها عند موعد صلاة العشاء، مع إمكانية رعيها لمدة أربعة أيام متواصلة دون حاجة الإبل إلى شرب الماء”
عن الجمّال أو راعي الإبل والصاحب والمهيمن على هذا الخلق العظيم يؤكد إبراهيم الضوان البلوي قائلًا: “الإبل تعرف أصحابها وأصواتهم، وتصبح مع الوقت كفرد من العائلة، تقضي مع الراعي وقتًا طويلًا وتسافر معه، بل وتحرص على تدفئته في البرد بالجلوس بقربه وتغطية جسمه لحمايته من المطر.” “كل ناقة أو جمل لديه شخصية مختلفة نميزها، كما أننا نميز أشكالها وأسماءها، وهي بدورها تستجيب للاسم الذي نطلقه عليها” “وللراعي أدوات بسيطة تعينه على تأدية مهمته منها (الصميل أو الشكوه) وهي عبارة عن قربة لحفظ الحليب بعد حلبه من الناقة لمدة تصل إلى ثلاثة أيام، (اللبيد) وهو عبارة عن وعاء من الصوف يضع فيه الراعي مستلزماته الضرورية مثل (العفل، والمجاميع، والاصرة، والشمايل) وغيرها من الأدوات الخاصة بالإبل، فيما يستخدمه (الغرب) لخض اللبن وتكوين الزبدة.
ويوضّح سلطان البقمي، المتحدث الرسمي لمهرجان الملك عبد العزيز للإبل لعام ١٤٣٩هـ في لقاء معه على موقع إشراق أن راعي الإبل عمد إلى تطويع مواد بيئته لتصنيع كل ما يحتاجه من أدوات تتطلبها مرافقته للإبل، بل أنه صنع من المواد المتوفرة حوله في محيطه زينة وزخارف تزين الإبل وتبرز جماليتها وخلقتها العظيمة.
في صور جمالية أضاف البقمي إلى أن العرب اتخذوا زينةً بارزة لرأس البعير وعنقه لأنه أول ما يواجه الناظر إليه، فاتخذوا لذلك (الأقاليد والبُرى)، و(البُرة) قطعة من الصفر تجعل أحد جانبي مُنخر البعير، و(الإقليد) هو البُرة التي يشد فيها زمام الناقة وهو طرفها يثنى على الطرف الآخر ويلوى ليّا شديدًا، كما اعتنوا بمعذر الناقة وهو ما يحيط برأسها من خلف الأذنين وحاكوا له ما يسمى (العذار)، وزينة (الجدايل) توضع في الرسن، وزينة (الزرج) في آخر حبل المقود الذي يقاد به البعير (الخطام) تربط على غزالة الشداد، وزينة (الخناقة) وهي عبارة عن أهداب من الخيوط الملونة حول عنق المطية، وزينة (الجرس) المصنوع من الصوف الملون بأصباغ يكون على شكل عُقدة كبيرة يعلق في عنق بدون صوت، وتزيّن مقدم الراحلة ومؤخرتها (الدباديب)، وتتخذ من خشب أو نسيج مشدود بقوة بطول الشبر أو أقل توضع على ظهيرة الشمالة في الجزء الخلفي، كما يذكر أن هناك نوعًا آخر منه يسمى (الكتافة) يوضع على غارب الناقة ويكون على الشمّالة، تزين جوانب (الرحل) وهو السرج الذي يوضع على الناقة ليجلس عليه الراكب زينة، (السفايف) وهي ما تدلى من الرحل من الحبال المزينة بالألوان والربث للزينة، وتكون من نسيج الصوف، وهي كذلك تشكل حزامًا عريضًا تحقّب به الراحلة وله طرفان طويلان يتدلّيان عن يمين الراحلة وعن يسارها مزينان بالكتل والأهداب الملونة، ومن زينة المتاع ما يطلق عليه (الدّشِن)، وهو ما تزين به الراحلة من الأمتعة الجميلة ذات الأهداب والألوان الزاهية والفرش، وتُصنع من الصوف المصبوغ بالألوان.
وفيما يتعلق بزينة الهودج، أو الغبيط، أو الظعائن، والظعن الذي يجعل على ظهــر البعـير فوق الرحـل؛ لتجلس فيـه المرأة وهي في ستر، فيما يطلقونه عليها (الجِزْجِزَة) ويعرف أيضا (الرجازة)، وهي خصلة من صوف تعلق بالهودج يزين بها، و(حبل الغوى) وهو زينة توضع على الجمل الذي يحمل القن وهو خشب الهودج، كما يلحقون بها (الذَّباذب) وهي أشياء تعلق على الهودج أو رأس البعير للزينة، وكذلك (النحيزة) وهي نسيجة طويلة يكون عرضها شبرا تعلق على الهودج.
في وصف دقيق للبقمي عن أدوات وزينة الإبل نلاحظ تعدد المهن المستخدمة في تلك الأدوات موظفة الصوف الطبيعي والصناعي، وقطع القماش والجلد، والحبال الملونة الذهبية والفضية، وبعض القطع المعدنية والخشبية، فنجد مهنة السدو والخياطة والنجارة.
مع رموز الفخر والعز، والجمال والزينة، يتجلى رمز البهجة والفرح مقترنًا بحداء الإبل أو الحَدو كما جاء في “تاج العروس” للجوهري “سَوق الإبل والغناء لها،….”حول الحداء يذكر نايف بن ناصر السيحاني، أحد ملاك الإبل في السعودية: كل مالك إبل يدربها على أوامر صوتية قائمة أوزان محددة للورود إلى الماء، أو الرحيل، أو الوقوف، أو التجمع” ويتخذ الحداء شكلين هما الهوبال والعوبال، فالهوبال هو “غناء يخص مسير الإبل في الصحراء، يقوم به الراعي كي يحكم سيطرته على قطيعه أثناء المسير وينجح في توجيهها بشكل منظم، فهي تستأنس لصوته وتتجمع حوله ولا تتفرق في الصحراء، أما العوبال فيقول السيحاني: “غناء يُؤدَّى أثناء سقاية الإبل عند توريدها على الماء، فيؤديه الراعي أو يتبادل راعيان الغناء بالترداد بينهما، وإن كانوا أكثر من اثنين فيجتمع كل اثنين ويتبادلان الغناء.” ويضيف: “أنهما ضربان متقاربان يقومان على أبيات خفيفة الوزن يطرب بها الراعي نفسه وإبله، وغالباً ما يكون على وزن (مستفعل ومستفعلن) على شطر واحد غالبًا وليس شطرين كما جرت العادة في الشعر الشعبي، ومن الممكن أن يكون ثلاثي الوزن (مستفعلن مستفعلن مستفعلن) أو رباعي (مستفعلن مستفعلن مستفعلن مستفعلن)”.
الإبل من الأنعام عظيمة الخلق، ذكية حاذقة التواصل، أنيقة وجميلة الطلة بما تملك من زينة وشموخ، نعم إنها الإبل ملهمة الشعراء والكتّاب والفنانين، رمز فخر وزينة وحداء قديمًا وحديثا.
ازدانت حروف المقال بمعرض تشكيلي مصغر سكبت الفنانات ألوانهن رسمًا وتفصيلًا لمكامن الجمال الرباني للإبل، فجاءت كل لوحة معبرة عن عظمة هذا الخلق العجيب.
لوحة الإبل الثمودية للفنانة التشكيلية فاطمة الشريف
يتخذ الإبل صور عديدة وفقًا للنقوش العربية الموجودة في الجزيرة العربية، عليه فقد رصدت اللوحة تصور تجريدي للإبل العربي وفقا لتلك النقوش، وجاءت الصورة السابعة واصفة النقوش الحديثة التي في الغالب تستخدم في تزيين الإبل.
تعليقات
إرسال تعليق