قطاطات رجال ألمع
المقال منشور هنا
في الصفحات الأولى لكتاب (رجال بحركة الفرشاة: قرية استثنائية في المملكة العربية السعودية) للأكاديمي الفرنسي، وعالم الأعراق الشهير (تييري موجيه)، خصص إهداء كتابه بعبارة:
“إلى الرسامتين الموهوبتين من قرية رجال ألمع التراثية: شريفة بنت أحمد وفاطمة بنت قحاص”
بدعوة من الدكتورة (أنّا كلاينجمان) من جامعة دار الحكمة عام 2015، في مشاركة تييري موجيه مشروع متصور لتلاقي الفن والعمارة والعلوم، حيث كتب عن قرية (رُجال) باعتبارها المرتكز لذلك التراث الفني العريق:
تقع قرية “رُجال” بمحافظة رجال ألمع بين منتصف المنحدر بين المنطقة الساحلية للبحر الأحمر، ومرتفعات جنوب غربي المملكة العربية السعودية، الشهيرة بالفن الجداري الزخرفي، ذلك الموقع الذي الذي يتمحور بين منطقة تهامة الساحلية وجبال السروات، ” حيث تستعير جبال تهامة عدد معينا من السمات الثقافية التي تقاطع مع تلك الموجودات في السروات، والمستمدة من الأكواخ الأفريقية”، وبعيدا عن أي افتراضات وآراء فإن “الفن الجداري لقرية رجال عمل فني عالمي منفصل عن أي سياق تاريخي”، إنه فن أنيق أصيل، وقد وثّق رحلته بمئات الصور التي امتزج فيها الواقع مع الخيال، ومما ذكر أن اللوحات القديمة ملونة بأصباغ طبيعية من الأصل المعدني والنباتي، تطحن حتى تصبح مسحوقًا ناعمًا على رحى من الحجر (مطحنة)، وهذه الألوان كلها كانت تستخدم كما هي دون أن تخلط بألوان أخرى لتصمد قرابة خمسين عاماً.، دُمّر معظمها بسبب الانهيارات الناجمة عن المطر الغزير، وعند ترميم بعض المنازل قام السكان بإعادة صباغة تكويناتها بألوان صناعية، تلك “التكوينات عبارة عن لوحات جميلة مجهولة المصدر من أجل متعة العين وسعادة الروح” .
في الكتاب ذاته تحدّث عن فن تزيين المنازل في قرية “رُجال” بمحافظة رجال ألمع (فن القَط العسيري)، ومن ضمن ما عرضه “عمود رُجال الشهير” أو (البَتَرة)، وهو جدار بارز داخل المنازل منقوش بالقط ، يكون مسند إلى أحد جدران المنزل، على هيئة كتلة ذات قاعدة مستطيلة ذات أساس حجري، له بعدين: بعد وقائي يستعمل دعامة رئيسة للمنزل، وبعد جمالي للمنزل، يصفه: “يُعدُّ العمود بزخارفه قطعة نسيج هائلة وغامضة وساحرة ذات نقوش تسر الأعين”. ووصف تلك الزخارف بأنها: ” أجمل السجادات السعودية التي رأيتها هي الواجهات المطلية لأعمدة قرية رجال”.
رصد الكتاب بأن فن القط “الذي تمارسه النساء بطريقة استثنائية، في كامل روعته”، وعرض دور كل من شريفة بنت أحمد الألمعي، وفاطمة بنت علي أبو قحاص في الحفاظ على هذا الإرث الفني، وهو فن له من عشّاقه ومحبيه، أمثال الفنانة الجزائرية نجاح خمايسية، والفنانة الأمريكية إليزبيت شلوسر، وقد أظهرت الفنانة الفرنسية ماجالي جينتيلوت موهبتها من خلال “إحياء هذا الفن والارتقاء به بحيث يمكن أن نرى -في وجهيه التقليدي والمعاصر- نموذجين متناظرين، متجاوبين ومندمجين، يشكلان في النهاية عملًا واحدًا هو نفسه؛ فشكّلا بذلك الوحدة دون التوحد”.
لوحات القط العسيري تحمل زخارف صنعتها سواعد وأنامل النساء لتزيين حوائط وأركان المنازل، والمدقق في تلك الزخارف عبر “عمود رُجال الشهير” في كتاب موجيه نجد أن جداريات القط يمكن أن تصنّف إلى أشكال وألوان، أما الأشكال فهي: عبارة عن زخارف هندسية ما بين المثلثات والدوائر والمربعات والخطوط؛ وهنالك ألوان أساسية “الأحمر والأصفر والأزرق”، وألوان ثنائية مثل الأخضر والبرتقالي، مع بروز اللون الأبيض للمساحات، واللون الأسود للخطوط.
ومن أبرز أشكال تلك الزخارف لفن القط التي يقسمها الكاتب والمرشد السياحي علي إبراهيم مغاوي في كتابه “حاضرة رُجال” إلى عشرة أنواع، وتتفق معه الباحثة الدكتورة جوزاء بنت فالح بن مدلول العنزي في بحثها القيم التشكيلية للعناصر الزخرفية في فن القط العسيري:
نقش (البناة) طابع فني يرمز إلى الأنثى، ويكون في أول النقش، وتكوينه عبارة عن شجرة مستندة إلى قاعدة مثلثة، وترها أفقي، ورأسها إلى الأعلى، وكأنها جبال متراصة، وهذا النوع يعكس العلاقة بين الأنثى والنبات في العطاء، ومن زخارف القط العسيري: (الأرياش) وهو على شكل نباتات، و(المحاريب) ترمز للبعد الديني، وتأتي على شكل يشبه تتالي أمواج البحر، و(الركون) أشكال مثلثة كبيرة متجاورة، و(البلسن) دوائر صغيرة ومنقوطة، و(الأمشاط) خطوط متوازية تتجه إلى الأعلى أو الأسفل ،و(التعذيق) شكل يأتي في نهاية البناة، ينتهي رأس المثلث بثلاث نقاط تشبه عذوق الذرة. و(المثالث والمخامس) ثلاثة خطوط أو خمسة متوازية تأتي في أسفل النقش كفاتحة له، وقد تأتي منفردة في بيوت الدرج َ أو الَّردم، و(الكف) خطوط متوازية مختلفة الألوان في أسفل جدار الغرفة وفي أروقة السلالم، و(الشبكة) رمز يتشكل من معينات ومربعات متداخلة تأخذ لونا موحدا، وقد ذكر في كتابه أيضا أن جحاحة بنت بريدي تعد الأولى في فن القط العسيري، وقد امتدحت فاطمة أبو قحاص دقة وجمال نقشها.
وتذكر الباحثة الدكتورة جوزاء بنت فالح بن مدلول العنزي أن الفنانة الشعبية تستخدم في نقش القط العسيري ثلاث عناصر تشكيلية هي: النقطة، والخط بأنواعه الأفقية، والمتوازية، والمنكسرة، والمنحنية، والمائلة، واللون الذي يمكن استخلاصه من الحجر الكلسي، أو الطينة الملونة أو نبات البرسيم، أو الألوان جاهزة الصنع عبارة عن مساحيق يضاف إليها الماء أو مادة مثبتة، والنوع الثالث الذي تجهيزه الفنانة الشعبية بنفسها، ويتكون من: أربعة ألوان هي: اللون الأسود: (مزيج فحم موقد يضاف إليه صمغ أسود)، واللون الأحمر: عبارة عن حُسن ومر وأرز مقلي مسحوق بعناية، ودور الرز المقلي يتمثل في تخفيف حدة لون الحُسن وزياد كميته، اللون الأزرق: طلح أبيض وزرنيخ أزرق، واللون الأخضر: طلح أبيض وزرنيخ أخضر.
ومما جاء في فيديو وثائقي للباحثة هيفاء الحبابي عن القط العسيري أن الزخارف تنّظم بشكل مصفوفة في المجالس، فتأتي أولًا: زخرفة المثولة: وهي عبارة عن خطوط إما أن تكون ثلاثية أو خماسية متوازية تأتي في أسفل النقش كفاتحة له، ثم تأتي الحظية: وهي عبارة عن زخارف تعبّر عن المحاريب، والدوائر الصغيرة والمنقوطة (البلسن)، ثم الختمة: شكل مربع بداخلها زخارف متنوعة، ثم الأرياش: وهي نباتات تكون فوق وبين الركون: وهي عبارة أشكال مثلثة كبيرة متجاورة.
ومن قطاطات عسير: فاطمة أبو قحاص التي تعلمت القط من والدتها (آمنة بنت محمد بن هادي)، وأما ما أضافته فاطمة أبو قحاص في فن القط العسيري هو تعدد تقنيات الألوان، وتقديم ألوان متعددة، ودرجات ظلية جديدة عبر عمليات المزج والتركيب اللوني باستخدام اللون الأبيض، وفي مدخل فندق قصر أبها تعد لوحتها شاهد بصري على مهارتها في توزيع الألوان بشكل متناسق، مستخدمة ريشتها المكونة من شعيرات من ذيل الأغنام تحسّنها، ثم تلف حولها عليها خيوطا رفيعة مع استخدامها لشطرتون خلال عملية القط، وقد كانت مهنة القط لديها عبارة عن مصدر رزق يعاونها على تربية أولادها، فقد كانت تتنقل بين بيوت القرية لتنثر إبداعها وتسد احتياجها، ومن قطاطات عسير فاطمة بنت فايع وهي صاحبة (متحف فاطمة لتراث المرأة العسيرية) والمكون من ثلاثة أركان رئيسة: ركن فن القط في منطقة رجال ألمع، وركن لفن القط في منطقة السراة وبلاد قحطان، وركن خاص للملابس التقليدية والمصوغات والحلي الفضية لنساء المنطقة، وفاطمة بنت امسباع، وفاطمة بنت محمد الزهر.
نقش الجدران واللوحات الجدارية (Fresco) فن عالمي، يتأخذ في كل ثقافة وحضارة أسلوبه وزخرفته وتقنيته الخاصة به، ويظل فن القط العسيري فن تمّيزت به عسير بروحه وإلهاماته الخاصة، وكل ما هو شاهد على جدران وأعمدة وأحاديث ملاك تلك المنازل هو الشاهد الحقيقي لهذا الفن البديع.
تعليقات
إرسال تعليق