الفنان يوهانس فيرمير في مهرجان الورد الطائفي 2023
فاطمة الشريف
المقال منشور هنا
مهرجان الورد الطائفي 2023 مجموعة من الفعاليات المثيرة للبهجة والتجديد، وتعد العروض الضوئية من أمتع تلك الفعاليات، فهناك عرض ترانيــــم الــــورد، ورحلة جبل الورد، وعروض النافورة الموسيقية، ومجموعــة المجســمات الضوئيــة المتناثرة في أرجاء حديقة الردف، وأخيراً ممر الانطباعية ما جعلني استرجع ذكريات أود التركيز عليها في مقالي الحالي، وعرض معلومات جديدة أكاد أجزم بعدم توفرها في الصفحات العربية، لقد قـدّم الممر لزواره أشــهر لوحــات المدرســة الانطباعية في القرن التاسع عشر(1874) لكل من: إدوارد مانيه (Édouard Manet)، إدغار ديغا (Edgar Degas )، والأمريكية ماري كاسات (Mary Cassatt)، أوغست رينوار (Auguste Renoir).
والعجيب أن الممر افتتح منصته الفنية بلوحة الفتاة صاحبة القرط اللؤلؤي (Girl With a Pearl Earring) للفنان الهولندي يوهانس فيرمير (Johannes Vermeer) من رواد الفن في القرن السابع عشر، ولا أعلم ما العلاقة التي تربط الفنان فيرمير مع المدرسة الانطباعية، وجيل الفنانين الانطباعيين الذين تأثروا بمن قبلهم أمثال: يوجين ديلاكروا.
(Eugène Delacroix)، وجون كونستابل (John Constable)، و يوجين بودين (Eugène Boudin)، وليام تيرنر ( William Turner)، غوستاف كوربيه ( Gustave Courbet)،وكثيرون غيرهم.*
فلا يوجد هناك أي علاقة أو تشابه في خصائص الأسلوب أو التقنية للمدرسة الانطباعية، أو تقارب الفترة الزمنية، عدا أن يوهانس فيرمير من الرواد الذين ينبغي الاقتداء بهم للأجيال اللاحقة، ولو أردنا إيجاد رابط فني قد يكون تقنية الظل والضوء، والدقة والتحكم في تأثيرات الضوء وأشكاله وألوانه وأنماطه على سطح اللوحة، وبالفعل تشهد اللوحة على الخبرة الفنية لفيرمير، واهتمامه بتمثيل الضوء على الأسطح المختلفة، وانعكاسه على شفتي الفتاة، وعلى القرط اللؤلؤي. تلك التقنية التي يتقنها الفنانين الرواد، غير أن الانطباعيون قادوا فكرة تتبع ضوء الشمس، وأثره وتأثيراتها على المنظر الطبيعي، وقد يكون هناك رابط أخلاقي وقيم سامية توفرها اللوحة من سمت واحتشام الفتاة، ورمزية الحجاب في الشريعة المسيحية وتقدير فيرمير له.
عودة جادة وجديدة مع الفنان الهولندي يوهانس فيرمير (Johannes Vermeer)، ذلك الفنان المبدع المقل الكبير، الذي ما زال حتى يومنا هذا تتوالى اكتشافات فنه، وحظه التشكيلي التشكيكي في الكشف عن بديع ما رسمه لنا من مشاهد الحياة اليومية للطبقة البرجوازية، ورصد دقيق لعالم مليء بالانسجام والنظام، وإعطاء تفاصيل مرئية في لحظات عابرة من الوجود البشري.
جوناثان جانسون (Jonathan Janson) مؤرخ فني، ومؤسس موقع (Essential Vermeer.com) يقول: “سخيف بمن يحاول أن يتقن الرسم مثل فيرمير، ويصف آرني نويمير (Arne Neumeyer)، “إتقان فيرمير الفني، والغموض السردي في أعماله تكمن عن تلك التلميحات الصغيرة ذات الروح الدعابية المقدمة خارج لوحات فيرمير، حيث يكون أحيانًا هناك شخص في اللوحة يبحث عن التواصل البصري مع الزائر، وقد تثير اللوحة تساؤلاً: ماذا سيحدث بعد ذلك؟ …”
لا تكفي هذه المقالة للحديث عن فيرمير ولوحاته قليلة العدد كثيرة الأحداث والقصص، ولكم أيها الأعزاء القراءة عن لوحة المرأة التي تكتب رسالة (, A Lady Writing )، وعنصر القرط ولمعانه في لوحات: الفتاة المبتسمة (The Smiling Girl)، صانعة القماش (The Lacemaker)
عودة إلي فيرمير في ذاكرتي، في عام 2015 في المعرض الوطني للفنون (The National Gallery of Art) بمدينة واشنطن دي سي (Washington DC)، وفي المبنى الغربي من المعرض، بالطابق الأرضي، في صالة صغيرة للعرض وقفت على المجموعة الرباعية للفنان فيرمير التي يمتلكها المعرض وهي:
الفتاة صاحبة قبعة حمراء (Girl with the Red Hat)، وامرأة تحمل ميزاناً (Woman Holding a Balance)، سيدة تكتب ( A Lady Writing)، والفتاة صاحبة الناي (Girl with a Flute)، مع شروحات للمعرض.
وها أنا ذا أقف في الثامن من ديسمبر 2022 في نفس المعرض في صالتي العرض رقم (G33-G34) بعنوان: أسرار فبرمير
( Vermeer’s Secrets October 8, 2022 – January 8, 2023)،
وعلى نفس المجموعة الرباعية للفنان فيرمير بشروحات إضافية جديدة، وصور تحليلية بتقنية التصوير، والفحص المجهري لدراسة التأثيرات الجذابة في لحظات العزلة الهادئة المليئة بالضوء في لوحات فيرمير الأربع، وشروحات تحمل عناوين رنانة تشير إلى أسرار فيرمير، واكتشاف قضية تزوير القرن العشرين بالمقارنة مع لوحتين للفنان: (الفتاة ذات الناي وفتاة ذات القبعة الحمراء) واللتين تُعدا لوحتين لفنانين مختلفين: أحدهما فيريير والآخر مجهول، ووجود شخصية مخفية في إحدى اللوحتين.
دأب القيّمون والقائمون على الترميم بالمعرض دراسة وفحص العديد من لوحات فيرمير مثل لوحة (المرأة تكتب رسالة) و(الفتاة ذات القرط اللؤلؤي) و(امرأة تحمل الميزان) ربما تكون السمة الأكثر تميزًا في تلك وجميع لوحات فيرمير هي لمعان اللوحة إدراكه التام للتأثيرات البصرية للون، وإحساسه العالي بالضوء وانعكاسها على عناصر تكوين اللوحة؛ لذلك حرص فيرمير على إتقان نظام المنظور؛ لصناعة فضاء مناسب للوحة، حيث يظهر حول نقطة التلاشي ثقوب صغيرة، وتبدو تلك العملية جلية في رسم لوحة (امرأة تحمل الميزان) وتحديدًا عند طرف إصبع اليد التي تمسك الميزان، الأمر الذي يعكس اهتمامه بالتفاصيل، والعمل ببطء، والتفكير بعناية في طبيعة تكوينه، والطريقة التي يريد تنفيذها، وكما يكشف التحليل المجهري للتصوير الكيميائي لطبقات الطلاء تحت سطح اللوحة نفسها أن فيرمير بدأ برسم أحادي اللون، ثم قام بسرعة بتكوين طبقة سفلية لرسم أشكال وألوان وأنماط الضوء، وأنه أضاف مادة تحتوي على النحاس لتسريع تجفيف الصبغة السوداء حتى يتمكن من المضي قدمًا في تشطيب اللوحة نهائياً، كما أنه حرص على إكسابها عنصر اللمعان من خلال إنشاء تأثيرات شفافة بوضع طلاء زجاجي رقيق، لذلك فإنه من المحتمل أن تكون الأقراط في لوحاته عبارة عن كرة زجاجية مقلدة، وليس لؤلؤة حقيقية.
وكما استخدام القيّمون على الترميم بالمعرض وسائل التقنية الجديدة مثل: التصوير الكيميائي، والفحص المجهري لعمليات الرسم الخاصة بفيرمير، والتحليل الدقيق لعينات الطلاء، ففي عام 1970 كشف تصوير الأشعة X-ray أن فيرمير عندما رسم لوحة (الفتاة صاحبة القبعة الحمراء) فقط رسمها على لوحة بها صورة رجل بقبعة سوداء، وما زالت التجارب قائمة وفقًا لمستجدات التقنية في تحليل اللوحة أكثر؛ لمعرفة تكوينات اللوحة الداخلية، وللوصول إلى تفاصيل الرجل الدقيقة، والفنان الذي رسمها، لذلك فإن صورة أشعة X-ray تعد خطوة مبدئية لتحليل طبقات اللوحة، والأصباغ المستخدمة، والعناصر المعدنية مثل الزئبق والرصاص، تُظهر الصورة وجه رجل بربطة عنق بيضاء، بالإضافة إلى جزء من وجه امرأة ذات زي، كما كشفت المعالجة الرقمية لصورة انعكاس الأشعة تحت الحمراء على الصبغة السوداء المستخدمة لقبعة الرجل ذات الحواف العريضة، ونهايات شعره الطويل الأجعد، وضربات الفرشاة التي تحدد عينيه وذقنه والرأس عبر كتفه. (الصورة رقم 1-2 )
وفي عام 2020 وعام 2021 خلال فترة الحجر في جائحة كورونا، حلّل القائمون على الترميم والقيّمون تحديداً لوحتيّ (الفتاة صاحبة القبعة الحمراء) و(الفتاة صاحبة الناي) في المعمل باستخدام التصوير التقني، وفحص اللوحتين بالعين المجردة؛ لدراسة أصباغ الفنان، وما تحتوي من العناصر المعدنية، وتحليل عمليات الرسم للوحتين،
فكان تحليل فريق الفحص إلى النتائج التالية:
١- هناك العديد من أوجه التشابه التركيبية التي تشترك فيها لوحة (الفتاة ذات القبعة الحمراء) و(الفتاة صاحبة الناي) من حيث عناصر اللوحة مثل: امرأتين بوجوه طويلة ونحيلة، وعيون بنية داكنة، ونظرات تعبيرية مركزة ومماثلة، وشفاه منفصلة قليلًا، والزي المشترك من قبعة ورداء وقرط، هيئة الجلوس على كرسي ذي حلية على شكل رأس أسد، وجدار خلفي معلق عليه منسوجة، إضافة إلى أن أبعاد اللوحتين متطابقة تقريبا في الحجم، ومرسومة على ألواح خشبية. (الصورة رقم 3 )
٢- هناك فوارق بين اللوحتين على الرغم من أن الطابع العام ومظهر العمل يرتبطان ارتباطًا وثيقًا بأعمال فيرمير وفلسفته الفنية، إلا أن الجودة في (لوحة الفتاة صاحبة الناي) لا ترقى إلى مستوى معايير لوحة (الفتاة صاحبة القبعة الحمراء) على أن الأولى تُظهر
وعيًا بعمليات الرسم الخاصة بفيرمير – مثل استخدام أصباغ معينة، والتطبيق المميز للضوء – لكنها تفتقر إلى المهارة أو الخبرة في إنتاجها لشبيهتها الثانية.
٣- من المحتمل أن تكون لوحة (الفتاة صاحبة الناي) مستوحاة من لوحة (الفتاة صاحبة القبعة الحمراء) فكلاهما ليست صوراً شخصية، كلتا المرأتين جالستين في وضع التحديق إلى الناظر، وخلفهما منسوجة، كلتاهما يرتدين قبعة، وثوبًا أزرقاً.
٤- يكشف التحليل الدقيق لعينات الطلاء وجه الشبه بين اللوحتين، ففي كلتا اللوحتين نجد اللون الأخضر واللون اللحمي ألوان اختص بها فيريمير دون غيره من معاصريه، وأن له طريقة خاصة في استخدام الألوان تتسم بالإتقان والجودة ، وأن هذه المعايير غير متوفرة في لوحة (الفتاة صاحبة الناي)، كذلك بالتركيز على الشفاه، في (الفتاة صاحبة القبعة الحمراء) استخدم فيرمير الظلال الخضراء الدقيقة مع مزج حواف الطلاء، مع رسم نقاطاً صغيرة ، وتسليط الضوء التي تتضمن اللون الوردي الخافت من حولها، في لوحة (الفتاة صاحبة الناي) كانت الظلال تميل إلى اللون الأخضر والأزرق الغريب، وهو لون ليس له وجود منطقي في داخل الفم، كما تم الكشف عن ضربات الفرشاة المدمجة لدى فيرمير دون اللوحة المنسوبة له، إضافة إلى أنه تم الكشف عن العديد من المواد المستخدمة في اللوحة المنسوبة، وليس كلها، تتوافق مع تلك التي استخدمها فيرمير، ولكن طريقة التعامل مع الطلاء مختلفة تماما.
(الصورة رقم 4 – 5- 6 )
٥- تشير الأدلة التقنية الجديدة إلى أن فيرمير لديه استديو خاص به، وربما كان لديه تلاميذ أو مساعدين من الفنانين أو الهواة أو من أفراد منزله يرسمون معه في الاستوديو، وأن أحدهم هو من رسم (لوحة الفتاة صاحبة الناي) وقد كان ذلك المتدرب على دراية بأساليب فيرمير الفنية، ومواده الفريدة ، ألا أنه لم يصل لمستوى خبرة وإتقان فيرمير، إن فكرة الاستوديو الخاص لفيرمير تثير فكرة أنه فنان عبقري، على العكس من ذلك، ربما كان مرشدًا ومعلماً، قام بتدريب جيل المستقبل من الفنانين.
إن الوقوف على معارض بهذا المستوى من التحليل والاختبار، والفحص باستخدام التقنية الحديثة والأجهزة، وزيارة معامل ومختبرات الترميم، والفحص للأعمال الفنية متعة أخرى، أما المؤلم في القضية هو التزوير ونسب اللوحة للفنان كذبًا وزوًرا من أجل الربح المادي، وهذا ما يجد له مبرراً الدكتور يوسف غزاوي (أستاذ جامعيّ، فنّان تشكيليّ وباحث) بأن:
“التزوير آفة اجتماعيّة قديمة الولادة والوجود، هي نوع من الغشّ والسرقة الأدبيّة بهدف الخداع والربح المادّيّ، لكنّها في الوقت عينه تحمل إبداعاً لا يقلّ أهمّيّة عن عمل الفنان الأصليّ. لقد فرضت عمليّة التزوير نفسها وجماليّتها في العالم، ممّا حدا ببعض الدول الأوروبّيّة إلى إنشاء متاحف خاصّة لها في بلدانها! هي إشكاليّة هذا العصر المعقّد.” لذلك سيكون العرض الثاني لمعرض أسرار فيرمير في هولندا الخريف القادم.
صور اللوحات لمقارنة سطح الطلاء بخرائط العنصر بخريطة العنصر الكيميائي الزئبقي، وصور مجهرية لعينة صبغة اللون الأخضر بعدسة كاتبة المقال الكاتبة والفنانة فاطمة الشريف
(الصورة رقم 1-2 -3 من اليسار إلى اليمين)
(الصورة رقم 3 )
(الصورة رقم 4 – 5- 6 – 7)
احدى أجهزة الفحص تعمل بنظام الانعكاس الضوئي
المصادر:
(WHO INSPIRED THE IMPRESSIONISTS?)
– Alleaume, Bastien, (WHO INSPIRED THE IMPRESSIONISTS?), ARTMAJEUR MAGAZINE, Jul 7, 2021.
– The National Gallery of Art Web Site in Washington DC.
– My Visit to (Vermeer’s Secrets Exhibition October 8, 2022 – January 8, 2023) in 9 December, 2022.
-غزاوي، يوسف، (تزوير الأعمال الفنّيّة.. الإبداع الرديف)، 13″خيام دوت كوم”، \5\2021.
تعليقات
إرسال تعليق