آثار تبوك وقراها على مأدبة الاستشراق

 



المقال منشور هنا

منطقة تبوك في شمال غرب المملكة العربية السعودية بمحافظاتها الست: تيماء، والبدع، والوجه، وضباء، وأملج، وحقل، أراضٍ خصبة، وواحات خضراء حباها الباري سبحانه وتعالى كنوزًا أثرية، وآثار مصفوفة، وأخرى متناثرة هنا وهناك، صور تتجدد في ذاكرة أمنا الأرض: بساتين النخيل، وحقول الذرة، وواحات غنّاء بأشجار الكافور النامية، والأثل العتيقة، والطلح الباسقة، وأشجار الدوم، والسنط، وفاكهة التين، وزهور العوسج البيضاء، مع أصوات طيور الزعرور، وبين التلال والأودية تتناثر ألواح الحجر الرملي المسطحة ذات لون أسود وأحمر، تتخللها عروق من الصخور قرنفلية وصفراء اللون، منحوت عليها نقوش قديمة بلغات متعددة ما بين ثمودية، ونبطية، وعربية، وأخرى يونانية وفرعونية، ورسوم خطية بدائية لرماة راكبين ومعهم رماحهم وإبل وحيوانات أخرى.

تبوك وقراها توثّق ذكريات وقصص التاريخ البشري، ما بين أمم بائدة، وأخرى عاربة ومستعربة، ورحلات حجاج بيت الله الحرام من بلاد الشام والرافدين ومصر إلى مكة والمدينة، ومساكن أثرية، ومعالم، وقصور، وقلاع، وعيون، وآبار متناثرة هنا وهناك في منطقة تبوك قاطبة، فهذا قصر الأبلق (زلوم) أو السموأل الذي اشتهر ذكر السموأل اليهودي بوفائه وأمانته في الشعر العربي، وبئر هدّاج معين لا ينضب ماؤه، وعيون موسى وذكريات الهجرة إلى الله، وعين السكر آيات ومعجزات النبي الهاشمي عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، وقصر مغيض، وقصر بن جوهر، والقلعة المهيبة، وقصر الحمراء، وقصر البجيدي، معالم وآثار تشرئب الأعناق إلى تبوك الأصالة والخير.

تبوك وقراها أرض وطأتها أمم وحضارات، أنبياء وصحابة، حجاج ورحّالة من العرب والغرب، فمنهم من ساد فباد، ومنهم من جاهد وانتصر، ومنهم من وقف على خيراتها وكنوزها فاشترى أو سلب، ومنهم من زار وكتب مئات الصفحات راصدًا أصالتها وتراثها الثمين، وقد زار وكتب عن تبوك وقراها عدد من الرحالة الغرب باحثين ومكتشفين، وحجاج مسلمين ومتخفين، من أمثال أولئك: 

الرحالة والمؤرخ السويسري يوهان لودفيغ بوركهارت (Johann Ludwig Burckhart)، والشاعر والرحالة الإنجليزي تشارلز دواتي (Charles Doughty)، وعالم الآثار الفرنسي تشارلز هوبر(Charles Auguste Huber)، ورفيقه الألماني يوليس اويتنج (Julius Euting)، والرحالة الإنجليزية الليدي آن بْلَنْت ( Anne Isabella Noel Blunt)، ودوجلاس كاروثرز(Douglas Carruthers) عالم الطبيعة الإنجليزي، والباحث عن البقر الوحشي في شمال المملكة، ويعد الدكتور الألماني ادوارد روبيل (Eduard Rüppell) أول أوروبي زارها وأشار إلى ذكرها في كتابه

 (Reisen in Nubien. Kordofan und dem peträischen Arabien, mit Kupfern und Karten) المنشور عام 1829م، وقد تُرجم عنوان الكتاب إلى العربية إلى: (رحلات في شمال السودان، وكُردُفان، وجزيرة سيناء، وساحل الحجاز)، وقُدّم له الكاتبان: حامد فضل الله وفادية فضة في مقال لهما يحمل نفس اسم الكتاب، ونُشر في صحيفة السودان في يوم 28 سبتمبر 2019، وكما زارها المستكشف البريطاني ريتشارد فرانسيس بيرتون (Richard Francis Burton) مرتين في عام 1853م، وعام 1877م، وذكر أن المقابر يطلق عليها اسم مغائر، وقسمها إلى أربع مجموعات، أولها الواقعة في الجهة الشمالية ومقابر الملوك، ثم المجموعة الجنوبية والكهوف المدعمة، وأطلق عليها “مدينة الأموات” أما ما يقابلها فسماها “مدينة الأحياء”،  وزار المكتشف والمستشرق النمساوي الويس موسل (Alois Musil) “مغاير شُعيب”، ووقف عليها، ووصفها وصفًا دقيقًا، ونشر العديد من مخططات تلك المقابر القديمة، وكما اكتشف المعبد النبطي الروماني.

 

يصف الرحالة المسلم هاري سانت جون فلبي ( Harry St. John Bridger Philby) الشهير بجاك فلبي، أو الشيخ عبد الله، في كتابه (أرض مدين) راصدًا رحلاته لشمال المملكة العربية السعودية مدين قائلاً: “سهول وأودية وجبال موغلة في القدم، والتي يرجع أوج مجدها إلى عهود إبراهيم وموسى وسليمان (عليهم الصلاة والسلام)، و”مراكز الحضارة العظمى الخوالي.” وقد كان أحد أهدافه للانضمام لبعثته إلى أرض مدين في تبوك هو جمع النقوش القديمة متذكرًا مسلة تيماء الشهيرة، والمكتوبة بالقلم الأرامي في القرن السادس قبل الميلاد، والتي نقلها باحث الآثار الفرنسي تشارلز هوبر عام  1884 من قصر طليحان في تيماء بمعونة من مضيفه وصانع أسلحة ماهر مقابل بعض القروش، لتستقر المسلة العربية في متحف اللوفر بباريس، ومن أهدافه أيضًا اكتشاف نصوص ثمودية ونبطية جديدة، أو بعض من النصوص السبئية والمعينية واليونانية، مع احتمالية اكتشاف نقوش سيناء البدائية الشهيرة، كما ورصد عدد النقوش التي تم اكتشافها مبعثرة تمتد من المدينة إلى خليج العقبة بما يقارب ألفي نقش من أنواع مختلفة.

 

ومع الرحالة الفلندي المسلم جورج اوغست فالين الملقب (عبد الولي) (Yrjö Aukusti Wallin)، الشهير بعبارته “أنستني حائل العالم كله” الذي زار تبوك، وقضى بها أيامًا ودوّن ملاحظاته في كتابه: (صور من شمالي جزيرة العرب في منتصف القرن التاسع عشر).

 

ختامًا أولت الدولة السعودية اهتمامًا خاصًا بهذه المدينة، وتابعت إنجازاتها الأثرية والتاريخية، ولعل من أوائل تلك الإنجازات في مجال العمارة والآثار: قلعة الملك عبد العزيز في حي البلدة القديمة بمحافظة حقل، والتي بنيت في عهد الملك عبد العزيز -رحمه الله- إبان مرحلة تأسيس المملكة العربية السعودية في عام 1359 هـ الموافق 1939، على مساحة 900 متر مربع، ويحيط بها سور بارتفاع 5,2 متر، وهي مزودة بأربعة أبراج في أركانها، وقد تم ترميمها وتحويلها إلى متحف لاستعراض تاريخ المحافظة، وكذلك قلعة الملك عبد العزيز في ضباء، التي بنيت في عام 1352 هـ الموافق 1933، بمساحة القلعة 1000 متر مربع، ويجري العمل على جعلها متحفًا بالمحافظة، ولعل مشروع نيوم في عهد الملك سلمان -حفظه الله- هو بالفعل “حلم جريء وطموح لمستقبل جديد، وهو انطلاقة التغيير التي ستجسِّد مستقبل الابتكار في الأعمال والمعيشة والاستدامة.” وتصاميم مدينة (ذا لاين) ومشاريع واعدة قادمة، ستجعل من تبوك أسطورة القرن الواحد والعشرين بعد الميلاد حضارة جديدة مبهرة لا تقل عن مثيلاتها في القرون السابقة… 

مجموعة مقتنيات الرحالّة عالم الآثار الفرنسي تشارلز هوبر(Charles Auguste Huber) في متحف اللوفر بباريس تقدر بعدد ثماني قطع صخرية ما بين انصباب صخرية، ونحوت بارزة، وآنية سيراميك مزجج.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

(12) مجالا لخطة 2024

قانون كونفوشيوس – قانون الغربنة في التدريب

كساء التوبة الضافي ... تأملات

مزاج البسطاء

تقنية السكينة السريعة للبروفيسور عبدالله العبدالقادر (Quick Coherence Technique )

قراءة فنية لجدارية كيث هارينغ